(الأيديوغماتية)*..من الخطأ وضع البراغماتية في مواجهة الأيديولوجية..والأخذ بإحداهما!!
تختلف الأحزاب العقائدية عن الأحزاب السياسية في كونها تحتفظ دائماً ببوصلة وظيفتها، بأنْ تضع صيغة التعامل مع اللحظة السياسية الراهنة في خدمة مبادئها التاريخية, ومتى ما فقدت تلك الأحزاب هذه البوصلة الهامة فهي غالباً ما تتحول إلى حزب سياسي لا صلة له بالعقائدية.
والحزب العقائدي وإن جرى تصنيفه في خانة الأحزاب السياسية إلا أنه يظل يحتفظ بأهداف ذات طابع تاريخي تُلزمه أن لا يقترف “خطيئة” أن يكون براغماتياً بالمعنى الذي يجعله يرتكب إثم الإنسياق الكامل وراء ما يسمى بضرورات النجاح في اللحظة الراهنة والذي قد يجعله يرتكب إثم التناقض بين ما هو مرحلي وما هو تاريخي .
على الجهة الأخرى، فإنّ الحركة السياسية ذات الأهداف المرحلية غالباً ما تعطي لنفسها الحق في اختيار ما يخدم وصولها إلى هدفها المرحلي غير معنية أبداً بحساب قيمة التناقضات التي يؤسسها ذلك مع أهدافها التاريخية لغياب تلك الأهداف أساساً.
والفكر الأيديولوجي يرتكب أيضاً واحداً من الأخطاء الكبيرة حينما لا يعطي اهتماماً كبيراً للعمل السياسي المعرَّف هنا بفن التعامل مع اللحظة متسبباً بتحويل تلك الأفكار إلى مقدسات لا يجوز الخروج عليها, ونائماً في عسل الترف النظري إلى درجة الغيبوبة, ومنساقاً بشدة لكي ينازل المخيلة الإفلاطونية على مدينتها الفاضلة.
أما البراغماتية .. فيقول عنها أشهر فلاسفتها , الأمريكي (تشارلز بيرس) , هي الموقف الذي يصرف النظر عن الأشياء الأولى والمبادئ، والمقولات ويتجه إلى الوقائع والنتائج. لكن تعريفاً كهذا قد يؤدي إلى وضع مفهوم البراغماتية في مواجهة الأيديولوجية, اي أنه يتعامل مقدماً مع الفكر الأيديولوجي كحالة معطِلّة لحرية التحقق من الأفكار الصحيحة على ضوء التجربة والأدلة العملية.
وأرى أن ذلك قد يكون معقولاً في حالة الأمم التي أنجزت تكوينها وأصبحت مبادئُها الأخلاقية التاريخية الرئيسة جزء من حياتها اليومية كوقائع وممارسات بات من الصعب الخروج عليها. وأعتقد أن البراغماتية والأيديولوجية هنا لا تتناقضان من جهةِ حقيقة أنّ البراغماتية لن تهدد باي شكل من الأشكال ثبات العقيدة التاريخية بأطرها الأخلاقية العامة لأن هذه الأخيرة قد تحولت إلى مجموعة من الحقائق الحية ولم تعد تتحرك في خانة الفكر الفلسفي التنظيري. ففي الولايات المتحدة التي تتمسك بعقيدة مواطنها تشارلز بيرس ( 1839 ـ 1914), وكذلك في حالة أغلب الأمم الأوربية, تتحرك البراغماتية في مساحة تطوير وتعديل النظريات التي تحولت إلى حقائق, من أجل أن تكون هذه النظريات أكثر قدرة على التناغم مع معطيات الواقع المتحرك والمتغير, أي من أجل أن لا تفقد حركيتها التي تمنحها صفة الحياة, فهي لا تلغي الفكر التنظيري المتأسّس على القدرات العقلية وقد تعطيه أفضلية السبق لكنها مع ذلك لا تمنحه شهادة النجاح إلا إذا أثبتَ قدرته على التعاطي مع معطيات الواقع, اي أن الحالة يمكن التعبير عنها بالتلازم ما بين النظرية والتطبيق.وعلى أساس ذلك أرى أن من الخطأ وضع البراغماتية في مواجهة الأيديولوجية والقول بضرورة الأخذ بإحداهما وترك الآخرى!.
لقد قيل إنَّ سقوط الإتحاد السوفيتي قد وضع نهاية تاريخية لعصر الأيديولوجيات مقابل انتصار ساحق للفكر البراغماتي الذي يعطي أسبقية التجربة على الفكرة, وهذا القول نشأ كما أعتقد من إهمال العلاقة الجدلية بين طرفي هذه الثنائية, اي البراغماتية والأيديولوجية, والإعتقاد بأن إحداهما نقيض للآخر. لكني اعتقد ان ثمة خطأ في إدراك أن تعثر الأيديولوجية كان سبَبَهُ الأساسي ولوجُها خانة التَصْنِيم وتَحوُّلها إلى أفكار مقدسة لا يجوز التفكير بتعديل بعضها أو تغيير البعض الآخر وتبديله. ولهذا أظن أن ذلك القول لم يُطِلقْ حكمَه ذاك على افتراض أن التفكير الأيديولوجي هو خطأ من حيث الفكرة أساساً, فحتى عتاة البراغماتيين لا يخرجون على الأيديولوجية بمعنى التزامهم بها بعد أن صارت مجموعة من الحقائق السياسية والأخلاقية ولم يعد هناك ثمة ما يدعو إلى تغييرها بعد أن زحفت من خانة التنظير إلى خانة الوقائع. لكن حينما يتحول الفكر الأيديولوجي إلى فكر تغيبي وتصنيمي غير قادر على تعشيق عقيدته التاريخية مع معطيات اللحظة الراهنة فإنَّ فشله يصبح مؤكداً.
لقد كانت هناك أحاديث صائبة ومهمة حول الأسباب الواقعية لفشل النظرية الماركسية في الاتحاد السوفيتي. كثير من أنصار الماركسية أكدوا أن الأخطاء كانت ذات علاقة بممارسات الدولة البيروقراطية وقيادة الحزب. غير أن التصنيم والجمود الأيديولوجي كان له أثر كبير في ذلك الزلزال التاريخي الكبير.
إن واحداً من أشد أخطاء الفكر الأيديولوجي وطأة هو ذلك الذي يتمشهد في غياب المرونة السياسية التي تؤهله للنزول من علياء النظرية وترفها إلى حيث معطيات اللحظة الراهنة.
لكن هل تعني البراغماتية وضع المبادئ على الرف لصالح ضرورات النجاح عند التعامل مع اللحظة الراهنة .. لا اعتقد ذلك, أما الجواب عندي فهو الذي يؤسّس للمفردة التي قمت بنَحْتِها هنا, وأعني بها (الأيديوغماتية) التي تجمع ما بين الأيديولوجية والبراغماتية, والتي تتحدث عن حقيقة أن البراغماتية لا توجد منقطعةً عن الأيديولوجية, وأن غياب الأولى عن الثانية سوف يمهد في ظني إلى الجمود العقائدي أو الأيديولوجي الذي يسد الطريق في وجه التطور الدائم ويعرض الفكر الأيديولوجي إما إلى خطر السقوط بذاته أوالتقاطع مع الواقع بما يُنهي أية علاقة حميمة أو إيجابية ما بين الإنسان والمحيط لكي يمهد للحظة السقوط الكبير.
في الوقت نفسه يفترض الشق الثاني من المفردة أن الشق الأول منها, ذو الصلة بالأيديولوجية, لا يمكن له أن يحيا ويستمر ما لم يلجأ دائماً إلى البراغماتية لتشذيب الأيديولوجية, أي حذف ما يمكن حذفه وإضافة ما يمكن إضافته على ضوء ما تؤسس له التجارب الميدانية من ضرورات للإضافة أو الحذف, حتى ولو تطلب ذلك نشوء أيديولوجية جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*في رأينا المتواضع، أنّ المفكر السياسي د. جعفر المظفر، يؤسس في هذا المقال (التنظيري-التحليلي) العميق، لمرحلة جديدة، تؤكد ضرورة الفهم العربي، لإمكانية توافُر”المرونة” الكافية في العمل الإيديولوجي من جهة، ولإمكانية تمتُّع “البراغماتية” بنسبة متكافئة تقريباً من إيجابية الأخذ بها. وآية ذلك ما رأيناهُ، ونراه حتى اليوم من فشل أيديولوجيات كثيرة، عندما تغافلت أو حرّمت على نفسها التعاطي براغماتياً مع التحوّلات التي تتحرّك في بيئتها، فارتمت بذلك في مستنقع “الدوغماتية”، التي حنّطتها، وحوّلتها إلى جثة قابلة للتفسخ.. “برقية”.