{3}ها العيد نعيده ببغداد.. وعيد الجاي بفلسطين..




الجزء الثالث والأخير
في أواخر العام 1968 عملت في جريدة “النور” البغدادية اليومية منذ بداية صدورها والتي كان يرأس تحريرها الأستاذ حلمي علي شريف. كانت المرة الأولى التي التقي فيها حسب الله يحيى هناك في أيام التأسيس، حيث اختير مراسلاً لها في الموصل. وفي غرفة تضم طاولاتنا عباس البدري وهاشم صاحب ونصير النهر ويوسف الياس، وأنا. حضر تلك اللحظة “أبو فواز” الزميل العزيز حسام الصفار، المشرف الفني على الجريدة. وكان سالم العزاوي كزائر عزيز من مدينة الموصل، موجوداً أيضاً. هناك التقيت بأبي بدران.. وجدته زعلاناً متاثراً اثناء التعارف، بل أحسست بذلك فور دخوله. جاء حاملاً مادة أو عموداً صحفياً، ضمّنه عبر السطور التي كتبها استهجاناً لما قامت به “إحداهن” التي لا يعرف اسمها ولا فصلها، ونُقل له أنها أدّت وصلة في ملهى ليلي ببغداد تحت عنوان “يا فدائي بالميدان“!

تضامن معه جميع من كان هناك: نعم، المكان غير مناسب، وأنه امر خارج عن اللياقة والذوق والاحترام، أداء أغنية من هذا النوع في مكان كهذا ونحن ما زلنا نعاني الجرح الذي مسَّ كرامتنا. وقد سارع عباس البدري الى نشر المادة في اليوم التالي وعلى الصفحة الأخيرة على ما اذكر.

ما هي إلا شهور، وتحديداً في ربيع 1969، حتى صرت “طالباً” في “كلية التضامن الدولية”.. مبنى تراثي كبير جميل بغرف وقاعات عديدة في إحدى ضواحي برلين الشرقية، متمتعاً بالزمالة الممنوحة لنقابة الصحفيين العراقيين من “اتحاد الصحفيين الألمان” “المانيا الديمقراطية” قبل سقوط الجدار.

معي صحفيون من الشرق الأوسط “العربي” والهند وافريقيا، دار نقاش ذات ظهيرة في استراحة ما بعد الغداء بين زميل مصري وآخر افريقي، قال الأخير ما معناه ان اسـ / رائيل هزمتكم انتم العرب مجتمعين، تطور النقاش الى ملاسنة كادت أنْ تتحول الى شجار لا تحمد عقباه لولا تدخل بعض الموجودين من مدرسين وموظفي الإدارة.
شعرنا نحن العرب بالإهانة وبوجع لا يمكن التغاضي عنه عندما وجدنا أنْ هناك من يعمل على تعميق الجرح إيّاه بشكل متعمد، وعرفنا فيما بعد أن الطريقة التي قال بها الكلام كانت استفزازية مشينة، وهذا ما جعلنا ننزعج بشدة. عقد مجلس الكلية وعمادتها على الأثر اجتماعاً فورياً واتخذ قراراً بتوجيه اللوم للزميل الافريقي طالبين منه الاعتذار.. ويبدو أنه قد أحسَّ بغلطته وفعل.

في بغداد وإبّان حرب تشرين 1973 كنا في جلسة ضمت زملاء فلسطينيين وعرباً، حيث توالت الصرخات بشكل لافت ومثير مطالبة بعدم توقف الحرب ومواصلة العمل حتى التحرير الكامل، وهو ما طالبت به الجيوش العربية أيضاً، مادام الجيش المصري البطل قد حطم “أسطورة الجيش الذي لا يقهر” بعد تمكنه من تحقيق العبور وتحطيم جدار بارليف سيء الصيت، ومادام “أبو خليل” يقاتل وهو بـ “الفانيلة” كما فعل في الحروب السابقة، والدبابات العراقية تسير على السرفات كي تنقذ دمشق من السقوط. المدينة التي جمعتني بعد سنوات بأشقاء سوريين ثلاثة، عبّر كبيرهم وأوسطهم عن الامتنان لوقفة ابناء الرافدين، فيما استغرب أصغرهم الأمر لأنه لا يعرف شيئا عنه.

وتوقفت حرب تشرين، وظلت أدبياتنا وأدمغتنا تركز على “القضية المركزية” للأمة العربية، وأنْ لا شيء يجب أنْ يُلهينا عنها. لكن ومع نهاية صيف 1980 وبينما طبول الحرب تقرع بوضوح ويسمع صداها في كل مكان نرى فيه الأرتال العسكرية تتجه شرقاً، فمازال بيننا من يراهن على أنّ أية حرب لن تقع مع الجارة الشرقية، غير معقول أنْ ينشغل العراق بها. كان ذلك في جريدة (الثورة) ونحن نعيش أجواء صيف ساخن ونقاش أكثر سخونة. انقسمنا الى فريقين، فريق “ضعيف” أقلية تضمني تقول: لا.. مستحيل! وآخر بأغلبية تفيد: نعم ستقع الحرب.
الا أنّ الفريق الأخير لم يخطر في باله على الأرجح بأنَّ الأمر سيستغرق أعواما ثمانية!

الآن وفي ختام موضوع لا يُخْتَتم، نرى أنّ “فلسطين” في مفترق طرق مثلما عرفناها في خضم أحداث وتطورات كبيرة شهدتها المنطقة عبر زمن يمتد لعقود خلت بات يعرفها القاصي والداني. الآن واسـ / رائيل تفعل ما تفعله وما ترتكبه من دمار وحشي في حريق غزة. ومع تداعيات ما حصل في 7 اكتوبر الماضي”2023″، استعيد منشوراً لي في نوفمبر تشرين الثاني من العام ذاته، مشيراً الى كتاب “المحدال”* بالعبرية اي ” التقصير”، بغلاف يحمل صورة كبيرة لغولدا مائير رئيسة وزراء اسـ / رائيل إبّان حرب تشرين 1973، والذي ترجمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت 1974م، حيث”رصد أخطاء اسـ / رائيل وسبب هزيمتها في حرب اكتوبر، بعد العبور التاريخي للسويس وتحطيم خط بارليف. وتضمن الكتاب تفاصيل كثيرة ومثيرة، واعتبر (شهادة) عن تلك الحرب “حرب الغفران” “كما رآها صحفيون اسـ / رائيليون ممن خدموا كمراسلين عسكريين او ضباط احتياط خلال الحرب” و” كما رواها أشخاص مطلعون على بواطن الأمور..”.. إذ أن الكتاب “يركز على تقصير الجيش اﻻس/ رائيلي وعيوبه“.

ومنذ أن بدأت معركة (طوفان اﻻقصى) في 7 أكتوبر 2023، وأنا أسترجع في ذاكرتي، كتاب ( المحدال) الذي قرأته في وقت ﻻحق منتصف السبعينات، وما تناوله من موضوعات، تحيلني إلى واقع القضية الفلسطينية منذ عقود، وما وصلت إليه الأمور في أيامنا هذه.

كان المنشور تحت عنوان: “بين اكتوبرين.. من سيكتب هذه المرة؟” ..
وختمته بسؤال يليه: “وماذا سيكتب؟“
هذا ما ستُجيبُ عنه الأيام.
هل فَقَدتْ ذاكرتي بعض ومضاتها بعد هذا العمر كله؟
ربما.. لكنني سأبقى أتذكر اغنية “مائدة نزهت” مع كل عيد، ولن انسى لحن محمد عبد الوهاب ايضا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بين أكتوبرين .. ؟ من سيكتب هذه المرة .. ؟
هل تذكرون كتاب ” التقصير ” ” المحدال ” بالعبرية ، و الذي ترجمته مؤسسة الدراسات الفلسطينية .. بيروت 1974 م ، حيث ” رصد اخطاء اسرائيل و سبب هزيمتها في حرب اكتوبر 1973 ؟ ” بعد العبور التاريخي للسويس و تحطيم خط بارليف .؟
تضمن الكتاب تفاصيل كثيرة و مثيرة ، و اعتبر ” شهادة ” عن تلك الحرب ، “حرب الغفران “، كما رآها صحفيون إسرائيليون ممن خدموا كمراسلين عسكريين او ضباط احتياط خلال الحرب ” و ” كما رواها اشخاص مطلعون على بواطن الأمور .. ” .. اذ أن الكتاب ” يركز على تقصير الجيش الاسرائيلي و عيوبه .”
تصدرت الغلاف صورة كبيرة لغولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل آنذاك ، “تشرح” عبر تقاطيع وجهها الكثير من التفاصيل والمعاني عن نتائج تلك الحرب ، و التي اعترفت من ثم ، في بداية حديثها في الكتاب الذي كتبته و حمل عنوان ” حياتي ” أنها ” فكرت في الانتحار ” .. !، لكنها استقالت أو أقيلت بعد شهور و توفيت في العام 1978 .
و منذ أن بدأت معركة ” طوفان الأقصى ” في 7 اكتوبر 2023 ، وأنا أسترجع في ذاكرتي كتاب” المحدال ” الذي قرأته في و قت لاحق منتصف السبعينيات ، و كنت طوال المدة السابقة و كلما تخيلت صورتها الكبيرة على الغلاف أحمل انطباعاً بأنّ الكتاب من تأليف مائير نفسها ، حتى جاءت لحظة التأكد ، ساعة المراجعة الأرشيفية ، و التي وضعت ذاكرتي على المسار الصحيح ..
بعد هذه المقدمة ، و بعدما عرف العالم ما حصل في حرب 6 أكتوبر 1973، و اطلع على ما كتب عنها و عن تطورات القضية الفلسطينية عبر سنوات ، ها هو يتابع عبر أجهزة الإعلام العديدة ووسائل التواصل الاجتماعي ، المشاهد المتتالية منذ 7 أكتوبر 2023 و حتى يومنا هذا ، و يعرف الكثير عن هذه القضية ، بشكل واسع النطاق و عميق التأثر ، و غير مسبوق حتى ..
و هنا يتبادر الى الذهن السؤال التالي :
ترى من الذي سيكتب عن الحرب هذه المرة .. ؟
اما السؤال الذي يليه فهو : ماذا سيكتب ..؟
