إفتتاحية

تأمّلات في (قيادة الصدر)..هل انهزم؟..هل انتصر؟..وما الذي سيأتي؟.

ـــــــــــــ بقلم: صباح اللامي ــــــــــــــ

      كان الجواهري الخالد يقول: (قائدٌ ملهمٌ بلا نفرِ …حُسرتْ عنهُ رايةُ الظفَرِ).. ومقتدى الصدرِ يستمدُّ إلهاميته من أمرين اثنين، الأول (تراث أبيه واستشهادهِ)، وجمهرة أتباعه. الثاني: كاريزماهُ تقتربُ من (حافّةِ الاضطرابِ الانفعالي). فهل انهزم بإنهاء الاقتتال؟..لا، ولم يجرؤ أحدٌ على قولِ ذلك. لماذا: لقد فاز مقتدى الصدر بما لا يمكن لأحدٍ ممّن نسمّيهم (قادة العراق السياسيين الحاليين جميعاً) الفوز به!. فهو بكلمة (عطّل البلد) وأجلس هؤلاءِ القادة الحكوميين والبرلمانيين والسياسيين في بيوتهم، ونشرَ رُعب التغيير في الشارع، وصعّدَ شعاراتِ ملاحقة الفاسدين، بل هدّد حتى السلطة القضائية، ثم لمّا آلت الأمور إلى الاقتتال، جاءَه (الأمرُ الشرعي) فأمهلَ المعتصمين، والمتظاهرين، والمتقاتلين، أتباعه وغيرَ أتباعه، فقط ستين دقيقة لإنهاء كل شيء والعودة الى بيوتهم، فكان له ما أراد!.

    وعلى حد تعبيره (گول لا..!!). لقد أثبت مقتدى الصدر للعراقيين وللعرب وللعالم أيضاً، لمن يحبّونه ولمن يكرهونه، أنّ خيوطَ الشارعِ العراقيّ طوعُ يمينهِ، يأخذهُ نحو الشمال، أو نحو اليمين، وبمعنى أنّه (سيّد الشارع)، بلا منازع، أي لا أحدَ غيرهُ بقادر على (تهييج الشارع وفرْملَتهِ) متى ما أراد!. ولا قُدرة البتّة لغيره على ذلك، أعني لا المالكي، ولا الحكيم، ولا العامري، ولا الخزعلي، ولا غيرهم، وبكلام مبين، ولا حتى السيستاني، بل ولا حتى (خامنئي) برغم ما للأخير من (سطوةٍ) عبر مافيات سرّية تابعة، ومطيعة طاعةً عمياءَ، تعملُ في نطاقي الحكومة (عسكرياً ومدنياً) وفي نطاق عامة الشعب (حشْديّاً ومذهبياً).

    فما قيمة ما حدَث بمقاييس الصدر وتيّاره ومريديه؟.. سيظل الصدر سيفاً مسلّطاً على رقاب الجميع (لا قيمة طبعاً لكلام انسحابه، أو اعتزاله)، إذ يمكنُ له في بحر شهور إعادة ترميم ما خرّبهُ (العنفُ والانسحاب) في مديات علاقته بقيادات التيار وتابعيه. ويمكنُ أيضاً أنّ يهتدي إلى (تصويب) تبعيته الشرعية مع آية الله كاظم الحائري، أو غيرهِ أو من دون أحدٍ، فهو وإنْ كان يُسمّى (حجّة الإسلام والمسلمين) في الاعتبارات الحوزوية، فإنّ أتباعَهُ يبالغون في تقديسهِ إلى ما يتجاوزون به رتبة (آية الله)، المؤهّل للإفتاء. إنّهم يعدّون أباه رحمه الله (وليّاً مقدساً)، ويعدّونه شخصياً، (مهدياً) آخر، إنْ لم يكن المهديّ نفسَهُ عند بعض الصدريين الذين لا يفتحون مُشْتَهَياتِ حبّهم الخرافي لقائدهم حتى آخر صفحةٍ في كتاب عشقهم له، فقد وصلَ الأمرُ ببعضهم إلى تقبيل (تايرات) جسكارتهِ!.

    لكنْ أين انهزم مقتدى الصدر، وكيف؟.قلنا في خاتمة تقرير نشرناه أمس: ((إنّ الأمور قد تستمر ليوم أو يومين ثم تتدخل المرجعية أو يصدر بيان من الصدر نفسه لوقف العنف والعودة الى الحوار)..وختمنا التقرير بالقول: ((إن الصدر طالما صعّد المواقف، ثم تراجع سريعاً)). لكنّ الحقيقة اليوم، هي أنّ التراجع فُرضَ على الصدر، ولم يكنْ اختيارَه هو!. لقد وصف اعتزالَه بأنه (اعتزالٌ شرعيٌّ) وأضاف في مؤتمره الصحفي: (المرجع گال ماكو تدخل بعد، ماكو تدخل..خلص هاي هيه في أمان الله، في أمان الله..ما لي شغل بعد، آني مواطن عراقي ما أتدخل بأي سياسة). وشدّد على القول بلسانٍ مرتبك، مشتبكٍ، محموم، هو أقربُ إلى (العَمهِ): (انسحابٌ كامل حتى من الاعتصام) وفي إجابة كما يبدو عن تساؤلٍ صحفيٍّ عن التظاهرات، قال (لعْ..حتى مظاهرات سلمية بعد ما أريد)!. أمّا الأدهى من ذلك كلّه فهو قوله (كما خرجت ثورة تشرين عن سلميتها، أنا الآن أنتقدُ ثورة التيار الصدري).       

      أما ما لفتَ الانتباه فهو تشديدُه وبتكرارٍ ملفتٍ: (القاتل والمقتول في النار) لماذا؟ لم يفسّر ذلك!!.ربّما ألمحَ بتكرارهِ أنّ الإيرانيين لا يريدون لقتلى الشعب أن يكونوا (شهداءَ).. وقال (الآن أمشي مطأطئ الرأس)، بيدَ أنّه لم يفسّر ذلك أيضاً. وقال: (أنا أنتقدُ اليوم ثورة التيار الصدري .. گول لا)، لمْ نسمع منه كلمةَ توضيحٍ أو تفسير واحدة. (ولا يجب أن يكون التيار وقحاً).. كيف كان وقحاً، يقول البعض إنّه ألمحَ بذلك الى أنّ بعض قيادييه (خذلوه)..كيف؟..لا نعرف كيف!. كانت ردوده في مؤتمره على حقيقتها، (إيحائية) بأنّ وراءَ الأكمةِ ما وراءَها!!.     

    إذن، ما الذي سيأتي؟!..هل سيعود الصدريون إلى برلمانهم، وتدور عجلةُ العمل التي اعتادوها ؟..هل يعتقد المالكي، الحكيم، العامري، الخزعلي وغيرُهم من قياديي (الإطار التنسيقي) أو (الإطار الشيعي) كما وصفوا أنفسهم في إبّان يوم (الإثنين الدامي)..هل يعتقدون أنّهم انتصروا؟..بحساباتهم، نعم، انتصروا، فقط لأنّ إيرانَ انتصرت لهم بطريقة (الافتاء الشرعي)!!.

    وأهم شيءٍ في الآتي من الأيام، ثباتُ رضا فقراءِ العراقيين بأنّ العنف، والاقتتال، وسياسات التهييج، تُربك عيشهم وتُفقرُهم، ولا تُنجزُ شيئاً. وأنّ واقع البلد يَفرضُ – حتى في مسألة ملاحقة الفاسدين- أو غيرها أنْ لا ينحدر الخلاف إلى استخدام السلاح، وتعطيل الحياة. وفي كل الأحوال، انتهت (قصة التظاهر والاعتصام والاقتتال) الى لا شيء، فهل سيستمر البرلمان؟، أم ستُجرى انتخابات بديلة؟. وكيف ستحقّق الحكومة كما أَعلنَ الكاظمي في قضيةِ من بدأ العنف؟ بل هل ستتمكن (حكومته الرخوة) من التحقيق الفعلي والإعلان عمّن كانوا وراء العنف؟!. لا أحد يعرفُ ما الذي سيجري، لكنّ الأمور ستعود حتماً إلى ما كانت عليه، إذا ما استمرّ الصدرُ بانتباذ نفسهِ عن العمل السياسي كما قال!.  

    وثمة أمور “تتكرّر” بأسلوبٍ يقترب من (السماجة)، فمقتدى الصدر، لأكثر من مرة يذهب إلى أقصى التحدّي، ثم يتراجع بقوة. نعتقد أنّه لن (يقوى) لزمنٍ طويلٍ على حيازة امتيازِ (الإمساك) بالشارع عبرَ (طاعةِ أتباعه)، فالتململ سيصيبُ الكثيرين من تكرار عملياتِ (التهييج) و(التنفيس) أو (التخييب)، إذ عادَ أصحابُه خائبين من تظاهراتهم، وإنْ صرّحوا، وادّعوا أنهم (مطيعون) في الحالتين!!.

    وباختصار يمكنُ القول إنّ (إيران) وليس غيرها كانت (الرابحَ) في كل ما جرى خلال تظاهرات الشهر الماضي، واعتصاماته التي انتهت اليوم الثلاثاء بعد يوم دامٍ، بأمرٍ عاصفٍ من مقتدى الصدر. ربحت إيران أو فازت، طبقاً لمعطيات اللحظات الأخيرة، فآية الله كاظم الحائري، أعلن اعتزاله المسؤولية الشرعية، ومن فوره أعلن مقتدى الصدر اعتزاله، معترفاً بـ(الأمر الشرعي) الذي صدر من الحائري، كما تقدّم ذكر ذلك. أنا شخصياً اعتقد أنّ مقتدى الصدر، كما تكشف (فوضى آرائه) في المؤتمر الصحفي، إنما نفذ أمراً جاءَ من مقلَّدهِ في إيران الذي أحالَه إلى (وليّها خامنئي)، وبذلك انتهت قصة ما جرى في العراق. وفي آخر مطاف هذه التأملات، ليس بوسعي إلا استذكار ما قاله الشاعر اليمني عبدالله البردّوني في قصيدته (عروبة أبي تمام):

      وما تزالُ بحلقي ألفُ مبكيةٍ

      من رهبةِ البوْحِ تستحيي وتضطربُ

      يكفيك أنّ عِدانا أهدروا دمنا     

ونحنُ من دمنا نحسو ونحتلبُ

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى