عاجل

زميلنا الكبير معاذ عبد الرحيم يترجّل عن جواد الصراع في “8” عهود سياسية

ـــــــ بقلم: صباح اللامي ـــــــ  

  لم يفاجئني خبر وفاة صديقنا العزيز وزميلنا الكبير (بكفاحه الصحفي والسياسي وبسِلْميتهِ وتواضعه وسيرته الطيّبة) الأستاذ معاذ عبد الرحيم (أبي سعد) فهو في تسعين عمره، نازع أمراض شيخوخته، مثلما صارع قساوة ما عاشته بلاده بعد نضال حقيقي على المستويين الصحفي والسياسي في ثمانية عهود انتهت إلى أيدي مجاميع الرعاع الناهبين!

      وأبو سعد رحمه الله تعالى وأسكنه جنّة الفردوس، أحد كبار الشخصيات العراقية التي وفدت إلى بغداد من سومر العراق، المدينة التي علّمت البشرية أوّل الأبجديات، وأوّل القوانين، وأوّل الأديان، وأوّل عجلة، وأوّل عربة يجرّها حصان، بل الأوّل في أساس كلِّ ما عرفته البشرية حتى الآن، تلك هي (ذي قار) التي سجّلت أوّل انتصاف للعرب من مظالم عجمِ الامبراطورية الفارسية، والتي يتواصل فيها عطاءُ أبنائها كفاحاً يومياً مريراً ضد الاستبداد، والهمجية، ورذيلة ناهبي ثروات العراق، وطغاة المتاجرة بالدين والسياسة!.

       وفي مكتوبِ تاريخ العراق السياسي، ومحكيّهِ وما رأيناه وسمعناه وعشناه عبر عهود النظام الملكي وثورات قاسم، والبعث الأولى، والعارفيْن، والبكر، وصدام، وعهود مُسْتنبتاتِ الاحتلال الأميركي والتغلغل الفارسي، كان المناضل معاذ عبد الرحيم من أوائل بعثيي العراق ومن أوائل رعيل صحفييه وكتابه السياسيين، لكنّه برغم تقلّبه في مناصب صحفية رفيعة في أواخر الخمسينيات وحتى الثمانينيات، ومنها نائب مدير عام وكالة الأنباء العراقية (واع) التي كنت أحد منتسبيها، ومستشار صحفي في السلك الدبلوماسي، عرفته (معارضاً) لنظام الرئيس صدام حسين رحمه الله أواخر التسعينيات، ومديراً لمكتب حركة الوفاق الوطني في العاصمة الأردنية  (الحركة التي يقودها الدكتور إياد علاوي) أحد أبرز معارضي صدام من جنس البعثيين الساخطين على نظامه السياسي!

      وفي بغداد، رأيتهُ آخر مرة في الكرادة بمجلس فاتحة فقيدنا الأستاذ أمير الحلو رحمه الله. كان أبو سعد الذي يتحدّى عذابات الشيخوخة بعذوبته وجمّ شمائله قد تزوّج ثانية في بغداد التي عاد إليها من منفاه الأخير في الولايات المتحدة الأميركية. نَكبَتهُ ماجرياتُ ما بعد الاحتلال وسقوط البلد بأيدي الرعاع والنهّابين والمتاجرين، المعمّمين، والمفرِّعين، والمشمِّغين. كان يحلمُ بنهاية الطغيان، وبداية تحقيق الحلُم، فإذا به يرى انهيار بلده وتلاشي أحلامه كلها إلى ما يرجع بالعراق عشرات السنين إلى الوراء، بل هو في عهد لم يرَ له مثيلاً في تاريخ ما عشناه وما قرأنا عنه. وفي إجابته عن سؤالي له عن رأيه في الذي جرى قال لي (أبو سعد) رحمه الله وأنزل عليه شآبيب رحمته: (لم أعد أثق حتى بنفسي.. نحن نخرّب بلداً عظيماً، نحن نعيش أسوأ عهد من كل العهود التي مضت، ولن يرى العراق خيراً لزمن طويل!!).

      كان الأستاذ معاذ عبد الرحيم يحبّ رفقتي له، ولطالما التقينا في عمّان، يولِمني كباباً عراقياً في بيت عائلته الكريمة أو في مطاعم عمّان الحبيبة، ويبثني أسراره، وهموم عمله السياسي وصراعاته الخفية في حركة الوفاق. وفي آخر لقاء لنا عشيّة رحيلي من عمّان إلى كندا، أخبرني (بسرٍّ لم يبُح به لأحد) إذ فاجأني بأنه، سيترك “وفاق علاوي” كما سمّاها، وسيرحل إلى أميركا وسيتصل بي من هناك لأكون أحد قياديي حركة سياسية يشكلها هو بمشاركة آخرين ذكرهم لي، ومنهم محامٍ عراقيّ في مدينة فانكوفر بكندا. ولمّا جرى ذلك فعلاً قلتُ له: (أبا سعد الحبيب أنا صحفي ولست سياسياً، ولا قرصاغ لي للعمل في مثل هذه المجالات). ولم ييأس، فاتّصل بصديقٍ لي في النرويج، يهاتفني ويحثّني على تولّي مهمة (إعلام الحركة)، لكنني أصررتُ على رفضي. وما عرفته فيما بعد أن الرياح جرت على غير ما اشتهت سفنُ أبي سعد!.

    لكلِّ أجل كتاب. وكلُّ نفس ذائقة الموت، وما نعيش إلا في (كَبَدٍ)!. الرحمة لأستاذي الحبيب معاذ عبد الرحيم. اللهم اكتب له الجنّة إكراماً لكل ما كان في قلبه من طيب ومن حب للناس والفقراء وعشق للعراق. إنا لله وإنّا إليه راجعون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى