تحليل معمّقتحليلات

قراءة في مشهد حرب الأيام الثلاثة على غزة

ـــــــ بقلم: د. خالد فتحي خالد الآغا ـــــــ

                    بسم الله الرحمن الرحيم

استمعت إلى موقف يرويه الإعلامي أحمد الشيخ؛ حصل له أثناء زيارته بعضَ قرى الأفغان حيث اجتمع الأطفال حوله، وحضر بينهم رجل في نحو الستين من العمر، فقلت له: أيذهب هؤلاء الصغار إلى المدرسة؟، قال: فنظر إليَّ شزراً، وقال: كنت أظنك ستسأل: هل أفطر هؤلاء الصغار اليوم؟، فكان في كلمة الرجل درس لا يزال أحمد يذكره بعد مضي أكثر من اثنتين وعشرين سنة على القصة.

حقيقٌ على أحمد أن يتأثر بهذا الدرس، فكم في الحياة من دروس تحمل في طياتها النِّعم السوابغ، فهي حَريّةٌ بأن يُعبر عنها بالكَلِمِ النوابغ، وهذا واحدٌ منها، وها أنا أجدُني حين أمسكت بالقلم لأخط هذه الكلمات وقد تتابعت على الفِكَرُ أَرْسالاً، فلولا أن أشق على القراء الكرام لأتحفتهم بعشرات الصفحات في شرح هذه الحكاية.

غزّة، وأطفال غزة، هم أول من تبادر إلى ذهني حين استمعت إلى الرواية، لا لأنّ أطفال غزة لا يجدون من الطعام قوتاً؛ فشأنهم في ذلك شأن آلافٍ من الفقراء في العالم الإسلامي، بل لأن للحديث عن غزّة فلسفةً أخرى، وحسبك أنك حين تتحدث عن غزة، أو تكتب عنها، أو تقرأ عنها ما كُتب تكادُ تشعُرُ أنك تتحدث عن مملكةٍ من الممالك العظمى في التاريخ الإسلامي، وما ذلك إلا لأنّ الدولة والأمة كالإنسان، يُقَيّمُ بإنجازِه وعطائِه، لا بطوله وحجمه.”1″  

نحن -المسلمين- نؤمنُ بالمنح الربانية؛ وبالعطاء الإلهي الذي يربط به الله على القلوب، ويثبت به الأقدام، وينصرُ به عبادَه بمدد من جنده، وهذا كلُّه في عقيدتنا غيبٌ مرتبطٌ بالأسباب ارتباطاً حقيقياً؛ لا موهوماً كما يتصوره غيرُنا من الأمم، ويسمونه الميتافيزيقيات، أو ما وراء الطبيعة، ويُسوّون بينه وبين الوهم الذي لا حقيقة له، كحال من يعتقد منهم أن لله ولداً، أو أنه ثالث ثلاثة، فهذا وهمٌ كاذبُ لا وجود له إلا في أذهانهم، والفرق بين الغيب الذي نؤمن به، والغيب الذي يزعمونه، أن ما نؤمن به من الغيب جاءنا من طريقٍ لا يملك البشرُ مجتمعين ردّه، ولا يزال يتحداهم تحدّياً قائماً إلى قيام الساعة أن يجدوا عليه مأخذاً وإن دَقَّ، أما ما يزعمونه غيبًا فدعوى كاذبةٌ ووهمٌ فارغ لا يملكون عليه برهاناً ولو اجتمعوا له، فما جاءنا به الخبر الصحيح الصادقُ إذن من أن الأرض المباركة -الشامَ؛ وأمُّها بيت المقدس- يرثها الصالحون من عباد الله، وما جاءنا من الأحاديث في فضائل الشام والرباط فيها-وغزةُ من الشام-وأن الطائفة المنصورة في أكناف بيت المقدس، كلُّه دليلٌ على أن الصلةَ بين الغيب والشهادة في هذا الموضع وثيقة العُرى، وهو منْ عُدّة المعركة التي أضلّ الله عنها غيرَ أمتنا من الأمم، وجعلها فينا من أسباب الربط على القلوب وتثبيت الأقدام، ومثْلُ هذا ينبغي أن يُعتمدَ في أبحاث علوم الاجتماع والنفس والتربية ممن يروم دراسة المجتمع الغزّي وما شاكله من المجتمعات، وهذه الأمور تقاس بآثارها على الفرد والمجتمع، والأثرُ قابلٌ للقياس، وهذا من أدوات البحث العلمي، أما غيرنا من الأمم ممن فاته هذا فهو غير مؤمنٍ به أصلاً، فتعين اعتباره فارقا بين مدرسةِ البحث العلمي الإسلامي وغيره من المدارس،  ولا يضر البحثَ العلميَّ الإسلامي أن يحتوي على حقائق لا يُسلم بها الأغيار، فليس من شرط الحقيقة اتفاق الناس على التسليم بها، ثم هي رتبة يخاطب بها من أتى بشرطها وهو الإسلام، على أن المادّيَّ قد يُسلم بالأثر وإن جهِلَ المؤثِّرَ، كما يُسلِّمُّ الماديُّون اليوم بالرعب الذي يجدونه ضرورةً في نفوسهم من انشار الإسلام وصولتِه في النفوس، المدلولِ عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: نُصِرْتُ بالرُّعْب مسيرة شهر، وإن كانوا يجهلون الباعثَ له، ويذهبون في تعليله مذاهب شتّى.”2″

يبدو من قراءة مشهد الحرب الأخيرة وما سبقه من حروب على قطاع غزة أن القطاع لا يزال شوكة في حلق الاحتلال، فقد كان يظن أنه بانسحابه من القطاع سيتخلص من أعباء السيطرة عليه، وأنه بذلك يوحي للفلسطينيين باستعداده لتنفيذ اتفاقات أوسلو، ويتخلص من وصمه بالاحتلال واتهامه بالعنصرية، وارتكزت سياسته بعد الانسحاب من القطاع على إيقاد العداوات في الداخل الفلسطيني، لاستهلاك جهودهم في الخصومات السياسية، ومن ثَمّ يوحي الحالُ للعالم بضعف السلطة الفلسطينية، منتهجا في الوقت نفسِه سياسة التضييق على الشعب الفلسطيني دون أي التزام بحدود قانونية أو أخلاقية،وعلى صعيد السياسة الخارجية كثف مساعيَه بزعامة الولايات المتحدة لعقد صفَقات التطبيع والترويج لكل ما يخدم التطبيعَ من المبادئ والسياسات، لكن الذي يبدو من تتبع مسار الأحداث وتحليل المواقف أن كل هذه الجهود لم تحقق نتيجة تستحق الذكر، بل ثمة مؤشرات تدل على أن هذه السياسات جاءت على خلاف التوقعات منها.

نكتفي في هذه المقالة بذكر بعض هذه المؤشرات ودلالات الأحداث، فالشارع الفلسطيني رغم قلة إمكاناته، ورغم تفوق الآلة العسكرية لدى الاحتلال؛ إلا أن كل ذلك لم يزدهم إلا عزما وإصرارا، وإيمانا بأنهم أصحاب الحق والأرض، وما استشهاد النابلسي، والعملية العسكرية التي وقعت في الداخل المحتل بعد الاتفاق على الهدنة الأخيرة سوى دليلٍ عملي على أن الإرادة واستعداد صاحب الحق للتضحية هي المحرك للصراع في حقيقة الأمر، فالمعادلة لا تتعلق بعدد من قُتل بغارات الاحتلال على قطاع غزة، ولا بجولة من جولات الحرب في هذا الجزء من تراب فلسطين ولا غيره، بل تصريحات زعماء الاحتلال بأن العملية العسكرية قد حققت أهدافها مطالبين بوقف العملية العسكرية مؤشر على أن الاحتلال لا تخفى عليه هذه الحقيقة، وأنه يخشى من تأجيج المقاومة إن استمرّ في التصعيد، وأن دافع الشعب الفلسطيني للاستمرار في التضحية أنه صاحب الأرض، فصلابته وعناده في المقاومة نابعان من ذلك، وأنه لا يمكن إزاحته من الزمان والمكان، كما لا يمكن نقل فلسطين عن موقعها الجغرافي إلى موقع آخر من هذا العالم .”3″

ولم ينجح الضرب على وتر الانقسام هذه المرة، فتصريحات قادة المقاومة دلت على حضور الوعي الضروري في طبقة القيادة مما يؤثر حتما في وعي الجمهور، وربما صدق ما أشار إليه بعض المحللين من أن خوض الجهاد الإسلامي المعركةَ شكّل غطاء لبقية فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس لدعمها عسكريا دون الإعلان عنها سياسيا، وبذلك استطاعت حماس أن تحافظ على زمام المبادرة في المعركة،وتجنبت محاولات إقحامها في المعركة لتفويت فرصة المبادرة عليها”4″، كما أن ذلك – على قول محللين آخرين- شكّل رسالة مفادها أن ما عاناه المحتل من الخوف والهلع في المدن المحتلة  سيعاني أضعافه مضاعفة عند اجتماع فصائل المقاومة على معركة واحدة، ناهيك بتحول المقاومة عن قرار الحرب النظامية إلى حرب تحرير شعبية شاملة طويلة الأمد.

ليس من شروط كسب المعركة أن يستوي طرفاها، وليست عوامل القوة السلاح وحده، فإن للانتماء إلى الأرض وزناً لا يمكن أن يحصل مثله للطارئ الغريب، وهذا الوزن يفوق المادّةَ قوّةً وأثراً، وما أنشأه طول المحنة ومعاناة الصبر من جيلٍ حديدِ الإرادة شاهدُ صدقٍ على هذه الحقيقة، غير أن النظرة الواقعية إلى القوة المادية، والموازنة بينها وبين المعنوية تساعد على تقدير المواقف تقديراً أقرب ما يكون إلى الصواب، تقديراً يوازن بين الإقدام والإحجام، لأن لكل موطِنَه، وهو تقديرٌ لا غنى عنه في كل جولة، كما أنه ضروري في استراتيجية تحقيق النصر، ومن وراء ذلك كله عاملان هما المَدَدُ لكل ما سبق، وإنما العقل والحكمة في استثمارهما: أمةٌ تمتد من المشرق إلى المغرب خيرُها كالغيث لا يُدرى الخيرُ في أوله أم في آخره، وإيمانٌ بالله يثمر الصبر واليقين بوعده القادم لا محالة.

ثمة رسالة ضرورية أكّدت على صحتِها هذه الحربُ والأحداث الجارية على أرض فلسطين، وهي أن كل ما يجري من محاولات للتطبيع مع الاحتلال لا وجود له على أرض الواقع إلا في أذهان من يسعى لأجله، فثمة واقع سابقٌ يفرضُ نفسَه في الأرض والتاريخ والضمير، لا يتلاءم مع التطبيع، ولن يسمح له أن يكون واقعا، وإن نظرة مُتَجَرّدَةً إلى تفاعل الشعوب العربية والإسلامية مع الأحداث الجارية- في المساحات الحرة المتاحة لهم-لكفيلة بتصديق هذه المقولة، كما أن السياسة العدوانية التي يتبناها الاحتلال تدعم صحتها، وفي الحروب طويلة المدى تظل الشعوب هي صاحبة القرار في نهاية الأمر، وإن اضطرتها بعض السياسات إلى السكوت حينا، فربُّ صمتٍ عاقبتُه أبلغ من الكلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- للتربية مدارس شتى، وللناس فيها مذاهب ومذاهب، والحال الذي يعيشه الناس تحت الحصار والاحتلال في قطاع غزة ومدن فلسطين أنتج مدرسة تربوية جديرة باهتمام المربين والدارسين، والشدائد تصنع الأمة والمجتمع كما تصنع الإنسان على حد سواء.

 2- الرعب المشار إليه في الحديث النبوي: نصرب بالرعب، هو من قبيل خوف المذنب ممن له سلطان محاسبته، ومن خرج عن الشرع الذي ارتضاه رب العباد لعباده وجد هذا في نفسه لا محالة، ولا علاقة لهذا بما تروج له بعض وسائل الإعلام الغربي من الأكاذيب التي تصيب الناس بالرعب من الإسلام، ويروج لذلك تحت مسمى: الإسلاموفوبيا، وهو مصطلح ظهر في سبعينات القرن الماضي، ويتسم بالمكر والخديعة، ويستثمر جهل الناس بحقيقة الإسلام.

 3- ما ذُكر من الأسباب هنا، لا يعني أنها وحدها عدة النصر، بل ثمة أسباب أخرى مادية ومعنوية، غير أن المقالة لا تتسع للتفصيل.

 4- أشار مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي يوم الأحد 1/8/2022 إلى أن حركة حماس تمثل معضلة حقيقية بالنسبة لإسرائيل، وأن تل أبيب تحاول إنهاء العملية العسكرية في غزة دون تدخل حماس في الحرب إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي، مشيرا إلى مفتاح الحرب وإنهاءها أصبح بيد حماس، لا بأيدي الوسطاء. موقع سبوتنيك، 1/أغسطس/2022.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى