
ــــــــــــ بقلم: د. خالد فتحي خالد الآغا ـــــــــــــ
رأيت في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصفهاني قولَ بعض الحكماء قديما: اليُسر في الغربة وطنٌ، والعُسر في الوطن غربة، وقد نقل نحوه الميداني في مجمع الأمثال، والسمرقندي في بستان العارفين، ونسبه بعضهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم يؤكد لي صحةَ هذه المقولة إلا غربتي التي قاربت أربعة عقود من الزمان، وحيث صدقت هذه المقولة في شأن الفرد فهي صادقة في شأن الأمة والدولة أيضا، لأن المقرر في علم السياسة أن سياسة الأمة تُعتبر بسياسة الفرد، والحديث النبوي الوارد في تمثيل المجتمع بالجسد الواحد، والآخر القاضي بتمثيله بالبنيان المرصوص يشهدان بصدق هذه القاعدة، وعلى هذا يُقال: إن المجتمع والأمة والدولة يظل كل منها غريبا في موطنه ما دام يعاني الحاجة والفقر، فالدولة بين الأمم، كالإنسان بين الأفراد سواء بسواء.
وكما يكون فقر الإنسان ناشئا عن عوامل ذاتية كالخمول والبطالة، أو خارجية كتسلط الحُسّاد والأغيار، فكذلك الحال مع الدولة، لكنْ ههنا أمران:
– الأول: إن الخارج لا يمكنه التأثير على الداخل إلا بقدر ما يستجيب الداخل للخارج، ولذا تحتاج قيادة الدولةكي تتفادى ذلك إلى وعي يميز بين التفاعل الموزون الذي يحقق المصالح، والاستجابة التي تفضي إلى التبعية والانقياد، ومن ثم إلى ذل الحاجة والفقر.
– الثاني: لا يُجزئ غنى الدولة عن غنى الأمة، ولا غنى الأمة عن غنى الدولة للتخلص من قيود التبعية، بل لا بُدّ أن يكون كلاهما غنيا،والمقصود بغنى الدولة ما يقوم بالحاجات والمصالح العامة، لا غنى حكامها، فإن هؤلاء من أفراد الأمة، وإنما نابوا عنها في القيام على مصالح العباد والبلاد، فلا امتياز لهم في استحقاق شيء من ثروات البلاد من هذه الجهة، أما التباين بين الدولة والشعب في الغنى والفقر فإنه يفتح الطريق إلى الاستبداد وتسلط الأغيار، ولا يضمن السلامة من هذا التباين إلا نظام اقتصادي يوزع الثروة بحسب الاستحقاق، ويمنع الاحتكار ويجعل المال دُولة بين الناس، ويفرض للفقراء حقا في مال الأغنياء، كما يجعل في المال حقا عاما تقوم به المصالحُ العامة، وسبيلا للمال يحفظ به هيبةَ الأمة بين الأمم، ولا توجد هذه الأصول مجتمعةً إلا في الإسلام.
لا يُتَوقع من نظام الرأسمالية العالمية الذي يُهيمن على حركة الاقتصاد العالمي أن تكون آثاره أقل مما يُشاهد من تراكم الثروة لصالح نفرٍ معدودين على حساب الأغلبية المحرومة التي تزداد حرمانا يوما بعد يوم”1″ ، هذا النظام الذي كشف وباء كورونا، ومن بعده الحرب الروسية الأكرانية عن تغوله وتوحشه مُستخِفّا بحياة الشعوب، لأن رأس الأولويات عنده تحقيق الربح الأقصى لا نفع الناس، ولذا انعكست تداعيات هذا النظام على الأنظمة التي عمقت ارتباطها به ظنا منها أن ذلك يضمن لها السلامة والبقاء،وإن لم تتدارك هذه الأنظمة = وعلى رأسها العربية وغير العربية من العالم الإسلامي – البديل الذي يحررها من هذه الارتباطات فإنها ستنهار بانهيار الرأسمالية، وقد تتخلى الرأسمالية عن بعض مبادئها لتقاوم السقوط وتضمن استمرار الصدارة، لكنّ ذلك لن يكون إلا إلى أجل محدود، لأن الأساس فاسد معاكس للفطرة البشرية، فهزيمته حتمية في نهاية المطاف، لا كما توهم فوكوياما أنها نهاية التاريخ.

الطرح البديل المؤهل لعلاج هذه الأزمات هو نظامٌ اقتصادي خبير مُلمٌّ بمصالح الأمم والشعوب، يجعل العدل هدفه الأول، لا يفرق في طرحه بين الناس على أساس جنس ولا لون ولا لغة، عليم بنوازع النفس الإنسانية، غائص في أعماقها، لا تندّ عنه من صفاتها شاردة ولا واردة، وهذا لا وجود له في الأنظمة البشرية لا في الشرق ولا في الغرب، لكنه موجود في الإسلام فحسب، إلا أن التنظير وحده لا يكفي لإثبات صحة ذلك، كما أن النظم الاقتصادية في العالم الإسلامي لا تصلح مثالا له، لأن قُصارى أحسنِها أنه ملَفّقٌ منه ومن غيره، فلا يُمكنُ أن تُحسب عليه، لأن القانون الإسلامي عزيز شريف يترفع عن مخالطة غيره أَنَفَةً وعِزّا، ولأنّ قوانين الشرع كلَّ قانونٍ منها كاملٌ في نفسِهِ، مكمل لغيره، فهي لا تقبل التجزئة بحال،كما أن دخول غيرها عليها يُفسد بُنْيَتها التشريعية، وإنما يحتاج قانون الشرع إلى أمّة تقوم به، ولن يكون قيامها به إلا بجهد وسعي، وإذا جاز لآحاد الناس أن يعتذروا بالاستضعاف والعجز عن ذلك، فلا محَلّ لهذا العذر في أمة يمتد سلطانها من مشارق الأرض إلى مغاربها، ولا تزال مُهابة بين الأمم رُغم كل ما يعرض لها من مُختَلِفِ الأحوال”2″ .
إذا كان رق العبودية – لغير الله تعالى – مانعًا من النهوض الحضاري، فينبغي أن يُسْتَحْضَر في الذهن أن (الرقَّ الاقتصاديَّ) كذلك، وإذا كانت الحرية مطلبا فطريا للإنسان، فهي مطلبٌ فطري للأمة والدولة، إلا إذا عرض لها انتكاسٌ في التصورات والمفاهيم، فينفتح حينئذ عليها باب التسلط من الخارج وتطمع فيها الأمم، وتصبح الأمة مُستَهدَفةً بنوعين من الرق: رق من الداخل، وآخر من الخارج، وأقرب الأمثلة حال العالم العربي والإسلامي، فإنه لما تعرض للتجزئة والتقسيم وتحول إلى دويلات، لم تستطع دولةٌ منه مُنْفردةً أن تنهض باقتصادها نهوضا يجعلها في مصاف الدول الرائدة، أو أنموذجا يقتدي به أقرانها من الدول، لأن دُوَلَهُ في الأصل دولة واحدة، وأمة واحدة، في الدين واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة، وما كان هكذا من الأمم فلا سبيل لنهوضه إلا بنهوض مجموعه، وقاعدة النهوض في هذا المقام هي التي سبقت الإشارة إليها في عنوان هذه المقالة: دعوا الناسَ يرزق الله بعضَهم من بعض”3″، فإن هذه القاعدة تصلح للأمة الواحدة كما تصلح للأفراد، وإنما جاءت لتمنع ما يُعيق الانتفاع وتداولَ المال، وهذا هو المطلوب لمنفعة عموم الأمة وإن تعددت البلاد، ولا فرق بين أن يكون المانع من تداول المال وانتفاع الناس بعضهم من بعض وسيطا أو سمسارا، أو يكون قانونا يقيد حرية التجارة، أو حدودا أو مكوسا تحول بين الناس وأرزاقهم، أو سلطانا غشوما يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، بل ضرر هذه أشد من ضرر الأول، لأنه متعَدٍّ إلى مجموع الأمة لا إلى آحاد الناس.
لقد جرى الحكم الديني الشرعي، والحكم الكوني القدري على هذه الأمة أن تكون أمة واحدة، فهي كالبنيان الواحد، وكالجسد الواحد، وفي هذين التشبيهين باب عريض من سياسة الأمة والدولة، ومن رزق الفطنة بعد توفيق الله تعالى استنبط منهما كلَّ ما يُحتاج إليه من قواعد السياسية، والله تعالى يقول: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة)، فقد قُضي الأمر، وحُسِمَ الطريق، ولاح المصير، فالبُنيان لا يُتصَوَّرُ بنيانا إلا باجتماع جميع أجزاءه على صفة معينة، وكذلك الجسد لا يتصور جسما صحيحا معافى إلا باجتماع أعضائه وتعاضدها على نَسَقٍ مُقدّرٍ مَفروض لا يقبلُ التغيير، وإلا لم يكن الأول بُنيانا، ولم يكن الثاني جسدا، وهذه قاعدة كلية ينبغي أن تكون حاضرةً في أذهان العلماء والمعلمين والساسة والخبراء والباحثين، وكلِّ من اضطلع بالقيام على شأن من شؤون الأمة، وكلُّ بحث علمي لا يراعي هذا التكوين الرئيس في قَدَرِ الأمة المسلمة وواقعها فهو قليل الجدوى، فالرسالة أو الأطروحة التي تُكتب في الاقتصاد الريعي في إحدى دول العالم العربي أو الإسلامي، أو عن سياسة التنويع الاقتصادي في دولة أخرى، أو السياسات المالية في دولة ثالثة، أو غير ذلك من الموضوعات، رسالة تجتزِئُ الطرح، وتختصر الصورة الكلية للبنيان في لَبِنَةٍ من لبناته، أو تختزل الجسد في عضوْ من أعضائه، وهذا قصورٌ كبير في البحث العلمي وفي آثاره العملية على حد سواء”4″.
ثم إذا كانت القاعدة التي أشرنا إليها علاجا لتداول المال بين مُكونات الأمة الواحدة، فإنّ في الحث على العمل والإنتاج الحقيقي، وفي محاربة الفقر، وفي اعتماد قانون التدافع، علاجا لتخليص الأمة من التبعية، وليس بين الأمة والخلاص إلا تسليم القياد لمن هو أعلم بحال الناس أمما وأفرادا، المطّلعِ على بواطنهم، العالم بأسرار السنن الكونية والاجتماعية التي تسير حركتهم ومعاشهم، الذي تَحَرَّرَ من جملة ما قاله في صفات الإنسان ما هو صفاتٌ للأمم كذلك، (خلق الإنسان من عجل)، (خلق هَلوعا)، (إذا مسه الشر جزوعا)، (إذا مسه الخير مَنوعا)، (وخُلق الإنسان ضعيفا)، (إن الإنسان لظلوم كفار)، (إن الإنسان لربه لكنود)، (قُتل الإنسان ما أكفره)، (فإذا هو خصيمٌ مُبين)، (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)، (تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة)، (وإذا مسه الشر كان يَئوسا)، (وإن مسه الشرُّ فيئوس قنوط)، (إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى)، (علم الإنسان ما لم يعلم)، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا)، فهذه أصول محكمة من صفات الإنسان وطبائعه، وليست نظرياتٍ وفروضا تَحتاج إلى اختبارٍ لصحتها، لأن مصدرها صانع الإنسان العليم بأسرار صُنعه وتكوينه، وحيث أراد الإنسان أن يتدخل في صناعة أمر انتقلت صفاته باعتباره صانعا إلى صفات المصنوع، سيان كان المصنوع آلة أو نظاما أو قانونا، ولا يمكن تفادي ذلك إلا بالتزام تعاليم الصانع الأكبر فحسب، أما مع إغفالها فالحال ما هو مشاهد في المثال الذي سيق الحديث لأجله، فإنه ما من صفة من هذه الصفات إلا وهي ظاهرة في أجلى صُورها في النظم والأمم التي تسعى لفرض هيمنتها على العالم اليوم، وفي مقدمتها الرأسمالية، وعلى سبيل المثال، فإن الحديث عن آثار الحرب الروسية الأكرانية على الاقتصاد العالمي شاهد واضح على تمكن هذه الصفات واستيلائها على المشهد الحاضر”5″، وأكثر الدول معاناة أكثرُها فقرا في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا، والمتوقع أن تكون أشد معاناة من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، سواء في مجال الطاقة أو الغذاء أو الأمن أو تعطيل النقل والتجارة، وعلى العموم فالأزمات التي تخلفها الحرب وتلقي بأحمالها على الاقتصاد العالمي ستنوء بالدول التابعة الفقيرة أكثر من غيرها، فهل يكفي هذا الدرس لتعتبر به الأمم التي تطلب النجاة؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – النظام الرأسمالي العالمي هو القاتل، لميس أندولي، موقع العربي الجديد، 29/3/2020.
2 – الحق أننا أمة قوية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولا يحل لنا أن نردد ما يريد غيرنا أن يقنعنا به من أننا أمة ضعيفة، لأن مقياس القوة والضعف هو ما تملكه الأمة من إرادة التغيير والإصلاح مستعينة في ذلك بما تملكه من الوسائل والأسباب المعنوية والمادية، وما نملكه من ذلك لا حصر له، كل ما نحتاجه أن نبحث في كيفية توظيفه واستثماره.
3- ليست هذه هي القاعدة الوحيدة في قانون الاقتصاد الإسلامي، بل تشريعاته في هذا المقام بنيان متكامل الأركان والأجزاء، وإنما ذُكرت هذه القاعدة هنا لأنها أمس بغرض المقالة، انظر مقالا بعنوان: اقتصاد العالم الإسلامي يستنزف، والزكاة حل سحري. حنين ياسين، موقع الخليج أون لاين، 10/5/2019.
4 – ذكر بعض العلماء السابقين في مصنف له أنه قد اشتكى إليه بعض الناس شعورهم بذهاب البركة من أوقاتهم وأرزاقهم، مع حرصهم على طلب الرزق الحلال مع بذل وسعهم في الطاعات واجتناب المنهيات، فكان جوابه مقتبسا من حديث تشبيه الأمة بالجسد الواحد، وأن هذا ما قضاه الله لها شرعا وقدرا، ومن طبيعة الجسد أن يتداعى كله إذا اشتكى عضو من أعضائه، فلما كثر الفاسدون وفشا أمرهم سرى أثرهم في أرزاق الصالحين وأوقاتهم، وإن كانوا غير راضين عن صنائع أولئك. وقد رأيت هذا منذ أكثر من عشر سنين لكن غاب عني الآناسم الكتاب والمؤلف. والله أعلم.
5 – هكذا دمرت الحرب الروسية على أكرانيا الاقتصاد الأفريقي، موقع الجزيرة، 9/5/2022. وهذا المقال أنموذج لعشرات المقالات التي كتبت في تأثيرات الحرب على الاقتصاد العالمي واقتصاد الدول الفقيرة خاصة.
مثل هذه المقالات من شأنها رفع وعي الأمّة ودفعها للنهوض الحضاري، سياسة الأمّة لا تنفك عن سياسة الفرد كما يقرر علماء السياسة والاجتماع، ومن هنا كانت الموازنات التي عقدها دكتور خالد والقواعد التي أراد أن يقررها في مقاله كلها تصدق على الفرد والأمّة، فغربة الأمّة شبيهة بغربة أفرادها، والرقّ الاقتصادي الذي تعاني منه الأّمّة، يعاني الفرد منه أيضا، والنتيجة خطر داهم يحدق بالأمّة من الداخل والخارج، وذل ومهانة. فأني لأمّة أن تحرر وقد غفلت عن الهدي النبوي الذي يشير إلى وحدة الجسد والبنيان، وكيف السبيل للتحرر لأمّة غفلت عن خطاب القرآن الذي من شأنه رفع قيم التكافل والتساند والغيرية، وارتهنت إلى قيم الأنانية والفردية التي تجتهد المنظومة الرأسمالية في تكريسها في وعي الإنسانية .. أكثر ما لفت نظري في هذا المقال هو التشخيص الواعي لعلل الأمّة فيما يتصل بموضوع المقال ثم الحلول العملية لتلك العلل، وهو في كل ذلك ينطلق من قاعدة( ما يصلح الفرد يصلح الأمّة) للحد الذي يقرر فيه الآغا أن ما رسمه القرآن من صفات نفسية دقيقة للإنسان تنطبق تماما على صفات الأمم ومن ثم لابد من وضع ذلك في الاعتبار في أي عملية بناء حضاري..