إبداعثقافة وفنون

البحث عن الذات الفكرية والهوية البعثية*

ــــــ بقلم: الدكتور جعفر المظفر ــــــ

    وإذا ما استدعينا من منتصف عقد الستينات بعضاً من مشاهد الاحتدام السياسي آنذاك فسنكون حتماً أمام واحد من أهمها ألا وهو استمرار عمليات الشدِّ والجذب مع التنظيم البعثي المحسوب على الجناح (السوري) الذي كان قد انقلب على قيادة ميشيل عفلق بدعوى الالتزام بالخطاب اليساري الذي كان قد تسيَّد الساحة السياسية إبّان عقد الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
    وبتأثير من الفشل الذي ظل ملازماً للحزب بعد انهيار نظاميه في كل من سوريا والعراق إبان مرحلة الستينات, واشتداد ساعد النظام في سوريا, المنشق على قيادة عفلق القومية, والذي آل بعد ذلك إلى حافظ أسد, فإن الجناح العراقي الموالي لعفلق في العراق والذي نجح مرة ثانية في عملية الاستيلاء على السلطة نهاية الستينات وذلك بعد الانقلاب على حكم الرئيس عبدالرحمن عارف, ظل يعاني من تداعيات إتهامه باليمينية, في عصرٍ كانت اليمينية فيه تعني ضمن ما تعنيه الانحياز والانتماء لقوى الردة الإجتماعية والسياسية.
   إن معركة المواجهة مع الشيوعيين ومع عبدالكريم قاسم لم تترك للحزب أن يعيش طفولة سعيدة وصحية بل جعلت منه مخلوقاً بجلد خشن وعضلات متينة, وقد قدر لذلك الجلد والعضلات أن تنمو على حساب عقله ورئتيه, فلا هو استطاع أن يطور نظريته ويبلورها ولا هو إستطاع أن يتنفس في الهواء الطلق بعيدا عن دخان وثاني أوكسيد الكربون المتصاعد من تلك المعارك.
    إن المجموعة السورية بقيادة صلاح جديد التي أفلحت في القضاء على حكم القيادة القومية في سوريا, ثم نصبت لنفسها قيادة قومية جديدة, هذه المجموعة التي كان من بين صفوفها حافظ الأسد, سرعان ما أفلحت بترويج خطابها اليساري مقابل تهمة اليمين التي ظلت ملاصقة بجناح ميشيل عفلق.
   إن كثيراً من الذين التحقوا بقيادة عفلق فعلوا ذلك مهتمين بقضية الشرعية التي تجاوز عليها (انقلابيو تشرين), ولو كانت قد توفرت أجواء صحية لحل الإشكاليات الفكرية بدون اللجوء إلى إسلوب الانقلاب العسكري لصار ممكناً العثور على حل أفضل
   ولست أزعم أن الانقلابيين الجدد الذين أطلقنا عليهم صفة (المنشقين) قد جاءوا بخطابهم الفكري والسياسي من العدم, ذلك أن العقيدة الفكرية للحزب التي جاء بها عفلق والتي اعتمدت أساسا على التنظير للعلاقة التفاعلية ما بين الإسلام والعروبة قد زجت نفسها في موقف صعب, ففي تلك الفترة كان ممكنا للتيارات الوطنية واليسارية أن تحسم كثيراً من الجولات وذلك بالإشارة إلى عجز خطابنا الفكري عن تجاوز محنته الفلسفية النظرية وخاصة حول علاقة العروبة مع الإسلام.
    

\ وكان نصف العالم الذي عشنا فيه يتحدث بالماركسية والنصف الآخر قد فصل رسمياً وسياسياً ما بين الدين والدولة, وبدا لي أننا نخوض بذلك سباقاً بين القارب ذي المحرك البخاري السريع الذي يقوده الماركسيون في النصف الشرقي من العالم ومعهم العلمانيون اللبراليون في أوروبا وأمريكا وبين قاربنا العروبي الإسلامي ذي المجاذيف الخشبية, وما كنا قد فعلناه هو أننا أردنا أن نركب لقاربنا الخشبي مجاذيف بخارية بدلاً من أن نختار قارباً بخارياً لحل أصل المشكلة.
    ولا يعني ذلك بأية حال أن الأحزاب الأخرى قد وجدت الحل الأكيد والنهائي لمسألة الدين وبالأخص علاقة الإسلام مع المجتمع, إلا أنه يعني أن حزب البعث قد دخل المدخل الفلسفي إلى قضية سياسية فارتضى لنفسه أن يتحرك في مساحة كانت الحركات السياسية الأخرى قد حاذرت أن تُفَعِّلها سياسيا حتى ولو من خلال التركيز على بعدها الحضاري التاريخي.
     لقد كان الأفضل لمؤسسي الحزب لو أنهم قدموا أنفسهم إلى المجتمع كمدرسة فكرية بدلاً من أن يتجهوا إلى تأسيس حزب سياسي من خلال موقف لم يكن حاسماً وصريحاً من قضايا أساسية وفي المقدمة منها موضوعة الدين والعلمانية لينتهي به الأمر هنا لكي يكون (عليمانياً), أي لا هو إسلاموي ولا هو علماني.
ولقد سبق لي وإن ذكرت أن الصراع الحاد مع الشيوعيين قد أدى (مرحلياً) إلى البحث عن مزيد من العوامل التي تساعد على دعم صفوف الحزب لجعله أقدر على خوض الصراع ضد خصم متمكن وكفء, وفي تلك الفترة كان كل ما يحتاجه البعثيون هو إعلان إلحاد خصمهم دونما حاجتهم إلى إعلان صريح بشأن موقفهم الذاتي من الدين.
     ولقد كان ممكنا للحزب أن يكون بمنأى عن خطر تحول التكتيكي إلى استراتيجي لو أنه بني بكفاءة متاريسه الصادة لذلك التحول, ولعل هذه مسألة لم تكن هينة على الإطلاق. وسنرى كيف صار الحزب في مواجهة تلك الأزمة الصعبة والمركبة والمعقدة بعد سقوط الشاه وهيمنة الإسلاميين على الحكم في إيران حيث لم تسعفه متاريسه الواطئة على صد الخطر القادم من الجهتين, الداخلية في مواجهة أخطار الإسلام السياسي الشيعي بقيادة محمد باقر الصدر والخارجية الإيرانية بقيادة روح الله الخميني, وبهذا صار الحزب في مجابهة ظلم السياسة وظلم العقيدة في آن واحد بعد أن صار العدو من أمامه والبحر من ورائه, أما عن قضية الإسلام فكنت من جانبي قد إكتفيت بالقول أن ما كان صالحا وقتها ليس بالضرورة سيكون صالحا في كل الأوقات (وأنا أتحدث هنا عن الإسلام الدولة والفتوحات وليس عن الإسلام الدين لأن تلك قصة أخرى).
   

وأعتقد ان أن المشهد المفصلي هنا هو أن تنظير عفلق كان طوبائياً بإفتراضه أن العمل السياسي يمكن أن يخضع لمخيلة التمني والتماثل والتماهي والانبعاث دون إعطاء العوامل الموضوعية أهمية قصوى على صعيد تحديد المناهج والعقائد وضرورة العثور من خلالها على البدايات الجديدة.
     لقد حاول الأستاذ عفلق العثور على البدايات الجديدة في الماضي وليس في الحاضر وذهب إلى حد تخيل إمكانية بعث الروحية والقيمية التي لم يكن ممكناً لها أن تسود آنذاك إلا بإشتراطها حضوراً لعوامل أساسية فاعلة وفي المقدمة منها وجود نبي ودين وبواعث ومكاسب تمكنت بحضورها الزمني والمكاني على تفعيل العلاقة بين التاريخي والذاتي من جهة والموضوعي من جهة أخرى.
     وفي اعتقادي أن تأشير الخطأ كان ممكناً أن يكون أفضل لو كان قد تم من خلال الوقوف أمام الخطر الذي ينتج حينما يتم فصل الموضوعي عن الذاتي وأيضا محاولة العودة إلى الموضوعي من خلال (إسقاط) ماضٍ ما كان بالإمكان تشييده لولا القدرة على التعامل مع الواقع الموضوعي لتلك الفترة التاريخية بالذات.
أي أن (المجد) الذي أراد الأستاذ عفلق أن (يبعثه) كان نتاجاً للواقع الموضوعي لـ (آنذاك) والذي لم يكن ممكناً إستدعاؤه دون تجسيد لمجموعة العوامل الزمنية والمكانية التي كانت سائدة آنذاك والتي ساعدت على تكوينه حينها, وهي عوامل كان بإمكانها أن تنتج ذاتها الخاصة.
في مدينة البصرة حيث ولدت وترعرعت كان يكفي ان تسقط منك نواة تمرة, لكي تنبت في مكانها نخلة. اليوم أعيش في ولاية فرجينيا الأمريكية التي يستحيل زراعة النخيل فيها رغم خصوبة أراضيها وتوفر الأليات والمواد الزراعية والسهولة الإنتاجية والتسويقية, لكن مع ذلك تحتاج النخلة في آنٍ واحد إلى مجموعة من العوامل البيئية والعضوية والمناخية لكي تنمو وتترعرع وتثمر. هذا هو ما قصدته بالعامل الموضوعي المنتج للإفكار المثمرة.
     وكما في الطبيعة كذلك في السياسة والفكر فإنه لا يمكن للحلم أن يعطيك نخلة.
ولم يكن بإمكان الحزب الصمود إلى ما نهاية إذ بدأ ماء الفيضان الديني الإسلامي يدخل من بين فتحات متاريسه لكي ينال من صفوفه الداخلية وهنا كان المأزق الثقافي قد بدأ يتسلق إلى سطح المشهد السياسي لدولته ولكي يعكس نفسه من خلال عملية ارتداد واهتزاز مضحكة مبكية كان أبطالها خمسة من أعضاء القيادة العليا (القطرية) للحزب من بينهم جعفر قاسم حمودي وبرهان التكريتي مضافاً إليهم طاهر العاني, حيث تمت معاقبتهم في المؤتمر القطري التاسع للحزب الذي انعقد في بغداد عام 1982 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القسم السابع من دراسة بعنوان (البعثيون وقضايا الإسلام وتاريخ الأمة القومي).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى