تحقيق

{2}”ها العيد نعيده ببغداد.. وعيد الجاي بفلسطين”..

الجزء الثاني

“اريدك تكتب تحقيقات تهز هز“..

    خمس كلمات ماتزال عالقة في بالي من حديث مع الأستاذ سجاد الغازي “أبو عماد” ونحن نقطع الطريق من مطبعة “الزمان” الواقعة في بدايات الزقاق المتاخم “للدفاع” ذاته، مروراً بمقر عملي القديم “صوت العرب”، وجهتنا مكان جديد سيجمعنا قريباً.

    جريدة “المواطن”، احدى صحف المؤسسة العامة للصحافة والطباعة التي تم استحداثها مع الغاء معظم الصحف الأهلية اليومية. سيكون الرجل نائباً لرئيس التحرير عبد الله الملاح، والجريدة تحتل مبنى قديماً كبيراً بطابقين تَستدل عليه بوجود دائرة البريد المركزي القديمة في الجوار. جاء معنا أيضا فاضل العزاوي الصحفي والشاعر والروائي والمترجم.

    والمترجم المتمرس والمتمكن (ومن اللغة العربية أولاً) في ذلك الزمان، عملة صعبة، يدرك قيمتها من عايش واطلع على تاريخ الصحافة في بلدان مثل العراق. قال العزاوي لي بعد أنْ تولى مهامه سكرتيراً للتحرير في أول لقاء لنا بابتسامة ذات انفراجة صغيرة، وسيجارة لا تفارق يده، تنشر دخانها الأبيض على صفحات سمرته الداكنة: “ايييييي.. .. لا تنسى تركز ع الاختيار .. الانتقاء.. والأسلوب همّينة “…

    كذلك فعل الكبير الراحل عبد اللطيف حبيب، من موقعه في إدارة (مطبخ) التحرير، وهو يحثني على البقاء لصيقاً بالجماهير، والاهتمام بما تهتم به.

    وركزتُ على أشياء كثيرة، ولم أخيب أملهم قط، فكان أول تحقيق أنشره في “المواطن” صرخة بعنوان: “مهندسون عاطلون يبحثون عن عمل“! ثم رحت أبحث عن المزيد والأقوى، يرافقني في جولاتي، المصور الحرفي الكبير سامي النصراوي.

     كتبت مجموعة تحقيقات وتقارير جعلت المترجم والكاتب والصحفي البارع حميد رشيد يقول: (رياض شابا.. واحد من احسن “الريبورترز” بالجريدة، حرام يطلع منها..). هكذا كان يُسمّي “المخبرين” أي المندوبين الذين يجمعون الأخبار ومحرري التحقيقات. فعل ذلك عندما صدر قرارٌ بتقليص عدد العاملين من غير الموظفين على الملاك الدائم، فتم استثنائي من القرار كي أواصل العمل بالقطعة وأنا أمضي سنتي الدراسية المنتهية في الجامعة. فما هي الّا شهور حتى أتخرج، وعندها سيكون لكل حادث حديث.

    أما تعرّفي على مسؤولين ودبلوماسيين أجانب عديدين ولقاءاتي مع وفود وشخصيات كثيرة، فقد عززت من موقعي بالتأكيد. قال لي الأستاذ الملاح وأنا أجلس قبالته في مكتبه المطل على الشارع: ” لاتهتم، عدنا مرونة تخلينا نبقيك، عندك ما يؤهلك لذلك، احنا نريدك”. كان لقاء مفعماً بالمودّة وأنا أرى مدى التأثر المرسوم على وجهه عندما أبلغتُه سلامَ المضمّد “الشاب” شابا الذي تعرف عليه وجمعهما مكان واحد، عند أول تعيين لهما في إحدى قصبات لواء أربيل، “بارزان” ربما، أو “طق طق” حيث ولدتُ، والتي كان الملاح مسؤولاً إدارياً فيها منتصف أربعينيات القرن المنصرم:

ها.. شابا..؟ تذكرتونو..”!!

   وجدت فرصة مؤاتية كي أكتب شيئاً مميزاً في (المواطن)، وكان ذلك معركة الكرامة “21 آذار 1968”. عشرة شهور بعد النكسة، أول نصر عربي يغسل شيئاً من آثار الهزيمة، ويسترد الكرامة في بقعة أو بلدة تحمل اسم الكرامة. سأعيش القضية ميدانياً، وسأكتب هنا ببعض الإطالة، لأن الأمر يستحق فعلاً.. أجواء ما بعد المعركة وقصص من الواقعة التي انتصر فيها الجيش الأردني و المقاتلون الفلسطينيون على العدو الاسـ / رائيلي.

    أعلنت كليتي “الإدارة العامة” بجامعة بغداد بعد مدة قصيرة من المعركة عن زيارة الى الاردن براً، للفترة من 30 نيسان وحتى الثالث من أيار. تشكّلَ وفدٌ ترأسه يعرب فهمي سعيد معاون العميد، سيذهب الى هناك تضامناً مع الشعب الفلسطيني والأردن الشقيق، فقد كانت التوجهات آنذاك تتمثل بتقديم أنواع الدعم الإعلامي والشعبي للبلدان التي خاضت الحرب.

    أما الأستاذ سجاد، فقط طوى رسالة كتبها للتو ووضعها في مظروف أبيض دون أنْ يوصده، موجهة الى عبد الحفيظ محمد رئيس تحرير جريدة “أخبار الأسبوع” الأردنية. سلّمني إياه وهو يقول: “سيقدم لك المساعدة الممكنة“.

     وقد تجاوب الرجل معي بالفعل. وأجرى أكثر من اتصال، عندما زرته مساء في مكتبه فور وصولي الى عمان بعد رحلة طويلة بالباص. مازال الناس يعيشون أجواء متاثرة بظروف النكسة والحرب. تحس أنّ المدينة كلها كذلك، لكن الجميع يتصرف في جو يشوبه الكثير من الاعتداد بالنفس، مع ترقب دائم لما يحمله المستقبل، هو ترقب سيظل يلازم الغالبية بعد تلك الأحداث.

في فجر اليوم التالي رن جرس الهاتف في غرفتي بالفندق الصغير وسط البلد. كان المتكلم رجلٌ اسمه نمر أو أبو نمر الذي سيصطحبني الى معسكرات تدريب الفدائيين ومخيمات اللاجئين الجدد..

     كانت معسكرات التدريب في مواقع لا تخلو من تضاريس صعبة تظللها أشجار عالية أشبه بغابات صغيرة، وكان أكثر ما تأثرت به تدريب “الأشبال”. أطفال بعمر الزهور يرتدون الكاكي، يقفزون فوق الحبال او يتسلقون بواسطتها، وهم يخوضون اجواءً تحاكي أجواء المعارك. أجريت لقاءات عدة مع مسؤولين ومدربين وفتية جعلوا دموعنا تسيل ونحن نرى إصراراً يبعث على الانبهار.، في منطقة أرجّح أنها الأغوار، رغم أنهم لم يفصحوا بذلك.

     تأسفت أيضاً لأن التصوير ممنوع هناك، لكنّه مسموحٌ به مع سكان المخيمات حيث اللاجئين الجدد “يواصلون” تشرّدهم في خيم أكثرها بيض و بعضها سود كالحة، تتجمع في أماكن تشكِّل الصورة الممتدة على مرِّ السنوات لمأساة تكبر وتتوسع، مع مقاومة تحاول أنْ تصلب عودها، وأمة تعيش نزف جرح لن يندمل بسهولة.

     بعض الشيوخ والعجائز ممن هاجروا أيام النكبة الأولى من حيفا ويافا وغيرهما من المدن التي يطلق على سكانها اسم “فلسطينيو الداخل” كانوا ضمن من كَلّمْتُهم. يحدّثونني بصوت متهدج، هو مزيج من الحزن والأمل. حزن على ما ضاع، وأمل في استرداده يوماً. ترى كم من النكبات ينتظرهم، بعد أنْ أجبروا على ترك أراضيهم وبلداتهم وبيوتهم ومزارع الزيتون والبرتقال والليمون؟ يكاد القلب يتقطر دماً لمشاهدَ وفصولٍ أشدَّ قسوة يمر بها شعب يريد أنْ يقرر مصيره من أجل حرية باهظة الثمن.

    فور عودتي الى بغداد، كتبت سلسلة تحقيقات ضمنتها مشاهداتي وانطباعاتي عن زيارتي تلك. تنتابني مشاعر يصعب وصفها وأنا أخترق طريقاً يمر ببلدات وضِيَعٍ ومواقع، كنت قد سجلت أسماءها في دفتري الصغير بعد مغادرتي مدينة “السلط” الأردنية. وحسبما علق في ذاكرتي بعد كل هذه السنين يرد اسم وادي شعيب والعوجة والشونة الشمالية، والشونة الجنوبية، خيل اليّ كلما اقتربت من المكان المقصود، أنني ألمح قباب كنائس القدس القديمة وجوامعها، المآذن والأبراج، النواقيس والتكبيرات..

    لقد شكّلت قصص البطولة التي سطرها المقاتلون في حدث مشهود بدلالاته الزمنية والمعنوية، مادة دسمة للصحافة والإعلام آنذاك، إذ قدم المدافعون أروع صور التضحية والاستبسال في اشتباك شهدته المنطقة التي تقع فيها تلك البلدة الواقعة على الحدود الأردنية الغربية (بين قوات جيش الاحتلال الاسـ / رائيلي وبين القوات المسلحة الاردنية ومعها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في فترة عرفت بحرب الاستنزاف) حسب تحديث أخير قرأته على “ويكيبيديا” ويطيب لي أنْ أنقل عنها ايضا:

    (يومها حاولت قوات الكيان الصهيوني احتلال نهر الأردن لأسباب يعتبرها استراتيجية. وقد عبرت النهر فعلاً من عدة محاور مع عمليات تجسير وتحت غطاء جوي كثيف. فتصدى لها الجيش الأردني على طول جبهة القتال من أقصى شمال الأردن الى جنوب البحر الميت بقوة. وفي قرية الكرامة اشتبك الجيش العربي والفدائيون مع القوات الاسـ / رائيلية، في معركة استمرت قرابة الخمسين دقيقة. واستمرت بعدها المعركة بين الجيش الاردني والقوات الاسـ / رائيلية اكثر من 16 ساعة، مما اضطر الاسـ / رائيليين الى الانسحاب الكامل من ارض المعركة تاركين وراءهم ولأول مرة خسائرهم وقتلاهم دون ان يتمكنوا من سحبها معهم. وتمكن الجيش الأردني من الانتصار على القوات الاسـ / رائيلية وطردهم من أرض المعركة مخلفين وراءهم الآليات والقتلى دون تحقيق الكيان الصهيوني لاهدافه.).

    أما أنا فاتذكر من بين ما تبقى من صور في مخيلتي أنني كتبت عن الفدائي ربحي الذي صدم نفسه بدبابة اسـ / رائيلية مرتديا حزاما ناسفا في وسطه فاستشهد على الفور بعد تفجيرها. أتذكر أيضا ما نقلوه لي من أخبار تواترت عن قيام العدو بنقل جرحاه بالمروحيات الى مستشفى هاداسا الذي قالوا انه قريب الى المكان.

كانت سعادتي لا توصف عندما فوجئت بنشر بعض مما ظفرتُ به من رحلتي على الصفحة الأولى أيضا من “المواطن“.

    كنتُ في البيت ذلك النهار. لم أخرج ربما لأنه يوم عطلة أو لأنني لم أكن مرتبطا بأية التزامات. جاء ابن عمي جرجيس الذي كنت أسكن غرفة في بيت بتاوييني كبير يضمنا وتقطنه خمس عائلات، ليخبرني أنه قرأ في المعمل شيئاً عن موفد أو مندوب “المواطن” في الأغوار أو الأردن أو شيء من هذا القبيل، إلّا أن ما أحزنني بعد ذلك أنّهم لم يضعوا اسمي على خبر الصفحة الأولى.

     لو كنت أدري لطرقت باب أول غرفة على يسار مدخل جريدة “المواطن” وانا اغادر المكان في المساء الفائت حيث ضياء حسن يصمم وبجانبه فاضل العزاوي وآخرون يضعون اللمسات الأخيرة على الصفحة الأولى، لكنت تدخلتُ مطالباً بحقي مع مادة صحفية اعتز بها، قلت في سري: ربما هذا تقليد يمارس مع الصحفيين الشباب حديثي العهد في الصحافة، أقنعت نفسي بذلك، ومنعني الخجل من أن أسالهم بصدد حجب اسمي:

الطمع مو زين”. لست ادري!!

      وبعد.. فإنّ شيئاً مهماً وكبيراً، يبقى مغروساً في مخيّلتي حصل في تلك الأوقات، يجدر بي التوقف عنده، يتعلق بالاهتمام الذي أبدته الراحلة سلام خياط بزيارتي. زميلتي الكبيرة التي (تقيم) معي ومحررون كثيرون في تلك الغرفة الواسعة أو (القاعة الصغيرة) من مبنى ( المواطن)، تفصل بيننا طاولة أو اثنتان. استرق النظر اليها بخجل ممزوج بإعجاب متنام، مبهوراً بـما تبوح به في (السطور الأخيرة) وفي تحقيقاتها الجماهيرية الناقدة، ببساطتها وهدوئها وصوتها الخافت دائماً. وسط ضجيج الرجال، او من دونه.

     في تلك الأيام التي تلت عودتي، بدت متفاعلة مع ما كتبته من مشاهدات وانطباعات وحكايات عن معركة الكرامة التي وجد فيها الكثيرون ضوء يبشر ببعض الأمل الطارد لكابوس الهزيمة. لكن الأيام والأسابيع التالية، ظلت مثقلة بأنباء تراجع عربي مثير للإحباط، كان من بين أحداثه، إنزال الكوماندوز الاس \ رائيليين على مطار بيروت في ليل الثامن والعشرين من كانون أول من العام ذاته، ملحقين الدمار بثلاث عشرة طائرة شحن مدنية لشركة طيران الشرق الاوسط. رأيتها في نهار اليوم التالي، غاضبة، محبطة وحزينة. لا أتذكر أين تحديداً، لكني اتذكرها جيداً تقول بأسىً بالغ: (باجر راح يدخلوننا بالبايسكلات..)!

  وأثبتت الأيام صحة ما توقعته (أم علي).. وها أن صانعي زمننا العربي وغير العربي من الذين (يحسبون) القدس وجهتهم، منشغلين بمصالحهم وأهوائهم ومعاركهم (الخاصة).

غداً الجزء الثالث والأخير

مقالات ذات صلة