وطنها “محّارتها الأثيرة”..تهرب إلى كهفها الشعري كلّما داهمتها الأحزان والهموم..



لستُ محترفَ نقدٍ، ولا مِنْ الدؤوبين عليه
لكنّها الذائقة حين تنتمي لمنجز ..
هكذا كتبت عن الكبير، شاعراً وإنساناً، حامد الراوي
ثم قادتني الذائقة للشاعرة المبدعة وبشكل استثنائي، نادية الدليمي ..
وعبر منشورات متباعدة، كانت كتابتي عن الباشط ، حميد سعيد ..
ووجدتني مأسوراً بنصوص الشاعرة الناقدة، بشرى البستاني.
وها أنا ألقي بمرساتي عند ضفاف شاعرة النخل، الكبيرة ساجدة الموسوي ..
ولكم اشراقاتها، وتحولات النص عبر مجاميعها الفاتنة.
.
.
إشراقات ساجدة الموسوي
وتحوّلات اللؤلؤ والمحار

.
كلّما زيّفوا بطلاً
قلت: قلبي على وطني
–الفيتوري–
.
تحمّلت المراة العراقية فقدانات واوجاعا كثيرة، ولعل أكثرها إيلاما للنفس الحروب، ومعايشة قوافل الشهداء التي كانت تضمّخ فجر المدن والمحافظات بهلاهل الشهداء الشبّان، على عادة الموروث الشعبي، في تشييع مَنْ كانوا على موعد مع الزفاف، لكن الحروب سرقتهم من الموعد المنتظر.
سواد المشهد هذا، وما تؤطّره يافطات النعي المزدحمة بأسماء الغائبين، وذكر مواقع القتال الممتدة على طول الجغرافية العراقية، الموغلة بكمائن الحجابات وترقّبها اللعين، لم يثلم كبرياء المرأة الأم – الحبيبة ، ولا أضرّت جراحاته العديدة بشموخها.
هذا المشهد العام، هو ما أجج القصيدة عند “طفلة النخل” وانتقل بها من عالمها الطفولي الأثير، الى عالم أقل ما يقال عنه انه “الجحيم”، لكنه ليس جحيم “هنري باربوس” الذي يتفرّغ بطله للنظر من ثقب في جدار غرفته بأحد الفنادق، ويراقب عوالم الغرفة المجاورة، متفحّصا الروابط، والتناقضات، في حياة الناس القادمين اليها او الراحلين منها.
هذا الـ”ثقب” غريب عن عالم العراقيين ( انا لا انظر من ثقب الباب الى وطني/ بل انظر من قلب مثقوب – يوسف الصائغ)..
ولذلك فإنّ “جحيم” ساجدة الموسوي هو (وطن) وليس (غرفة) وفتحة الجدار هنا هي “فضائيات” مزروعة كاميراتها حتى داخل النفس، وليس فقط في الطرق والمتنزهات أو الفنادق..
وطن بكل متعلقاته، من تاريخ الى جغرافية الى أجناس، الى أديان، الى مثيولوجيات، والى رقم طينية، “رُقُم” وجدت فيها ساجدة المولودة في ميسان (القرن الثاني ق.م) نظيرتها السومرية الشاعرة الكاهنة، فامتدّ خيط سرّيّ بين “انخيدوانا” أرض ميزوبوتاميا، وإنخيدوانا أرض العراق المعاصر .

.
تقول لها سومريتها
:
( أنا انخيدوانا
كنتُ المظفرة.. المبجلة
لكنه ساقني من حَرَمِي
صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة.
جعلني أمشي بين العليق في الجبال
عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا
ناوَلني خنجراً وسيفاً
وقال:
أديريهما صوب جسدكِ
قد وجدا لكِ. ..
…
أنا الكاهنة، إنخيدوانا،
حاملةً سلّة البخور، أنشدُ ترنيمتكِ السعيدة،
لكنني الآن..
لم أعد أسكن المعبد المقدس الذي شيدته يداك.
أتى النهار، وجلدتني الشمس
وأتى ظلّ الليل، وأغرقتني الريح الجنوبية)..
حوار شعريّ تردّ فيه ساجدة، وكانها تشكو لها ايضا إكليلها المضاع، بعد إحتلال بلادها، وبعد ان كانت – مثل صنوتها- مبجّلة، مظفّرة
:
(مجروحة روحي، وفي رئتي نحيب
..
مرّت على مقلي النوارس
لا صوت الا همسك الوسنان
يا موج الخليج
ما كان لي من قبل اصحاب هنا
في برّك المأهول
لا أهلٌ ..
ولا بلٌ لريق ..
..

الخيبة ذاتها بين انخيدوانا (القديمة والحديثة).. خيبة مريرة تحتل انفاس الشاعرة الموسوي، فتبحث لها عن أنساق، ومتون، وبِنية شعرية، تسعى الى ايجاد جوهرها الخاص بها، علّها ترتقي بغنائيتها العذبة الى مصاف الحنين والشجن، فتشكّل “معادلا موضوعيا” للموغلين في الجراح والألم،
فتخاطب ذاك الذي أطاح باحلام كاهنتها
:
( .. قم فاقرأ الألواح
لا ما قالت الأخبارُ لا الصُّحُف ُ
ينبئك فيها الطين ُ
إنّي َمنذ آلاف هززت الأرض كي تعطي
وهززتُ أنجمها كيما تضيُ فلا تخبو
وأكتب للدنيا أناشيدي
وأنصرفُ
فماذا قد جرى للأرضِ ..للتاريخِ ..للدنيا
دمي يجري ولا من قال للدنيا كفى
ولا من قال يا أسفُ
أدركتُ لا عتبى على أحدٍ ..
لملمتُ جرحي
وها أنّي بكل العزم ألتحفُ )
……
الشعر محنة ساجدة الوجودية، فقد حملت على هودجه قصائدها المتفردة أينما رحلت أو أقامت، في بلاد الغرب، او في بلاد العرب، ليستقر بها المقام أخيرا في الإمارات ، لكن قلقها الشعري لم يستقر، واستمرت برحلتها المكوكية بين نص ونص بحثا عن مشروع إبداعي، صافٍ كالجمال، ومثقلٍ في الوقت نفسه بهموم الوطن والإنسان.
2
واجهت الشاعرة الموسوي ساجدة، تحدّيا لمشروعها الشعري منذ بداياتها ، وربما هذا التحدي لم تضعه الكثير من الشواعر الاخريات في حسابهن الا نادرا، ويكمن في ما يمكن ان أسمّيه بـ” الهيمنة الذكورية” على االمشهد الشعري، العراقي والعربي بشكل عام، وهذا التحدي “الذكوري” كان يملك أدوات انتشاره مثلما كان يملك ظلا وارفا من التأثير والمتابعات النقدية بحكم الثقل المجتمعي – اولا – وثانيا بحكم امتلاكه الشجاعة على المغامرة وإبتكار “أشكال” جديدة ومغايرة لنصه، ولعلّ في الأشكال التي ابتكرها، أو قلّدها شعراء سابقون لها، ما حفلت به الكثير من مجاميع تلك الفترة ، بالنصوص “التجريبية” المتأثرة بما طرأ – عالميا-على الشعر وعلى الأدب، من بيانات وتجارب، كالسريالية والدادائية ومصطلح القصيدة الكونكريتية.. الخ، وهو ما انعكس في طريقة كتابة النص الشعري وتوزيع ابياته على شكل طواويس، او أشجار، او مجسّمات هندسية..
هذا المتغيّر لم يتوقف عند الشكل فقط، وانما امتد الى اصدار “بيانات شعرية” لما يسمّى الآن بـالـ “كروبات- groups“ حيث تجتمع مجموعة من الشعراء، من الذين يحملون همّاً شعرياً واحداً، وإنْ اختلفت ايديولوجياتهم، ويصدرون “بيانا” تفصّل فيه طبيعة مشروعهم القادم للقصيدة، ولنأخذ مثلا البيان الشعري الستيني، (كروب فاضل العزاوي وسامي مهدي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى) والذي شهد – فيما بعد- معارك ادبية وصلت الى اصدار كتب لأرخنة من كان صاحب فكرة تأسيس “الكروب” ( الموجة الصاخبة سامي مهدي –كتاب فاضل العزاوي “الروح الحيّة” ودخول الشاعر خالد علي مصطفى على الخط ، بكتابه “شعراء البيان الشعري!”).
“كروب” الستينيين بمنجزه وتنظيراته، أغرى أجيالا لاحقة بتأسيسات مماثلة تسير على خطاه (كروبات- السبعينات والثمانينات، والتسعينات).
.

في هذا الجوّ بدأت ساجدة الموسوي بالإعلان عن نفسها شاعرة، صاحبة خارطة طريق شعرية قوامها البساطة‘ والسرد، والإفادة من عوالم الطفولة، والحكايات الشعبية، واعتماد اللغة القريبة من نبض الشارع، ولعلّ فيما قاله الشاعر الكبير سامي مهدي عنها هو عين الصواب (في وقت كثرت فيه الحذلقات والادعاءات، وفي وقت صار فيه الشعر مشروعاً صعباً ومعقداً، تقدم لنا شاعرتنا ساجدة الموسوي اقتراحاً شعرياً آخر هو : البساطة، وهي تقدمه بتواضع شديد لتقترب به من أحاسيس واذواق أكثرية الناس- سامي مهدي).
ومن هنا يمكنني القول بان شاعرتنا مزيج من “طفولة” عصية على العمر، و”نضج” قادتها الأعوام الى بحر معاناته، فدخلت الى (محارة – الوطن) واغلقتها خلفها، متفرغة للكشف والكتابة التي تملك سرا غير منظور بينها وبين من تعنيهم قصائدها.
وبحسب علم “الرخويات” فان “المحارة” كائن حيّ حين تشعر بأن ثمة من تسلّل اليها، تحاول ان تمنعه من الخروج خوف اختراق جدارها الخارجي فتحتضن القادم الجديد، وتسهر عليه ليتحوّل من مجرّد ذرّة رمل الى “ثروة” ونوع جمالي تبذل الأموال والجهود من أجل الحصول عليه .
ساجدة الموسوي، محارتها الأثيرة وطنها، تهرب الى داخله كلما حاصرتها الأحزان والهموم ، باعتباره “الكهف الشعري” الذي يشكّل لها الأمان والدفء، مثلما هو المكان الذي تمارس فيه ضحكاتها ودموعها بلا خوف او ريبة من أحد، في يقين يسكنها بان لابدّ من زمان قادم سيكتشف أهلها لآلئها النادرة.اللآليء التي انضجتها القصيدة، برغم كل ما غلّفها به المحيط الخارجي، والذي غالبا ما كانت ترمز اليه الشاعرة بـ(البحر) الحاضن لمحارتها الشعرية.
وتظل الخيبة ذاتها بين انخيدوانا (القديمة والجديدة) تحتل انفاس ساجدة الموسوي، فتشتغل على أنساق، ومتون، وبِنية شعرية، تسعى من خلالها الى ايجاد صوتها الخاص بها، لترتقي بغنائيتها العذبة الى ما كانت تريده وتسعى اليه، من قِيمٍ سردية وغنائية، وواقعية غير مسطحة، ما ان تغادرها حتى تعود اليها، لأنها تشعر بالاطمئنان في هذه المنطقة التي تريد ان تشتغل فيها، لكونها ليست قوالب “حداثوية” جامدة، او انثيالات سائبة، تغيب منها أهم ما يمكن ان أسميه “بصمة الشاعر” .
أحيانا تتحوّل –ساجدة- من سياقها الغنائي، الى نسق درامي فيه كل عناصر الدراما المتعارف عليها، حدث- اشخاص – حوارات تتحوّل في أحايين كثيرة الى مونولوج داخلي:
لماذا تُسمَّى بلاد السواد؟
– لأن الحروب ترشُّ الدخان
تبيع الحِداد إلى الأمهات، إلى اللافتات
ومن سهر الأعين الخائفات
تصير المدائن بحرا من الحدقات
– لماذا النخيل طويل؟
لكي يرفع الأرض عن حزنها المستديم
إلى قمر مزُهرٍ، وصلاة
إلى حُلُمٍ لا يموت
إلى زمن لا يفزّز نوم القطاة
إلى خيطِ فجرٍ ندى
قد يُطلٌ بما يتيسّرُ من معجزات!
***
لماذا العراق حزين؟
– لتبكي السماءُ عليه،
ومن دمعها تولدُ الأنهرُ الصافيات
تدورُ النًواعيرُ، تسقي الزروعَ فيربو النبات
ومن دمعها،
يشربُ الناس ماء الحياة!
***
لماذا الغمام حزين؟
– لأن العراق يتيمٌ
على وجهه دمعتان
هكذا قالت الأغنيات
.
أخيرا ..
لا يمكن ان تسأل الموسوي ساجدة عن قصيدتها القادمة، لانها تعيش لحظتها حين يتكون في داخلها نسغ الجديد، أمّا القادم فهي لا تخطط له، فالعفوية والتلقائية هي مشروعها الابداعي، وليس التقعر في اللغة، او الغوص في اللا مفهوم، أو السريالية الغرائبية، وانما هي تعود بالشعر الى جذره الغنائي، الى واقعه المعاش والمتداول لكونها تريده هكذا، به عطش الى الناس، وتوق الى الوطن الذي يجمعها بهم، فهو انتقال يسافر بها من الهامش الى المركز، من الـ(أنا) الى الـ(نحن) فربما لقطة واحدة من شارع، أو باب بيت قديم، او نداء صبيّ هو الحلم الذي يراودها عن القصيدة، حلمها في نفي القصيدة القادمة أو اثباتها:
فوق مياه البحر الصامت
أبحثُ عن باخرة أو زورق
يوصلني لبلادي
عند مطار أغلقه الحراس بوجهي
وجواز صار مريباً
أبحثُ عن طائرة تقلع بي لسماء بلادي
فوق تخوم الأرض الباردة السكرى
أبحثُ عن درب يوصلني لبلادي
أو كيف انسدّت في وجهي كل الأبواب
كيف اخترعوا لعذابي كل الأسباب
أصرخ: يا بغداد
يفيض الدمع تغض به الأهداب
بغداد
خطاي تحنُّ
وقلبي مجنونٌ يهذي
في ليلة شوقٍ
آهٍ مَنْ يسمعُ؟ مَنْ يسمعُ؟
مِنْ يا بغداد ؟
3
في عموم مجاميعها الأخيرة، (بعد عام 2003- عام الغزو) يرى القارئ لنصوص هذه الشاعرة حجم معاناتها الشخصية لفقدان وطن سرقه منها الاحتلال ، متخذة من قصائدها محاميا كونيا تريده ان يحمل صوتها ويطارد به القتلة والمحتلين، منكفئة على غربتها، فمثل خليج السيّاب هو خليجها، وان تغيّر الزمن ونأت المسافات:
نامت .. وما نامت
وما رقد المنام
تعبى وتسال يا ترى
هل لي الى اهلي طريق
مر الصدى..
مر الندى ..
مرت قوافلهم، وما وقفوا لها
كل مضى الا نشيجك في سكون الليل
يهدر يا خليج
لو مرة كالريح تحملني الى الغالي العراق
فاضمه كالطفل ثم أرجع للفراق .
..
لو مرّة ..
