وزير سابق..من “مخاض” الأحداث في بغداد إلى خضمِّ المحاضرات في الجامعات الأميركية



“طاهر البكّاء”، إنساناً، مدرّساً أكاديمياً، أستاذاً أو بروفيسوراً، باحثاً في التاريخ وكاتباً فيه، رئيسَ جامعةٍ، وزيراً، ومن ثمَّ أستاذاً محاضراً في أرقى جامعات العالم، هوَ، هوَ، بعلمِهِ، بتواضعه، بقبولهِ للرأي الآخر، باحترامه لكراماتِ البشر، أينما كانوا، أي أنّ سماتِه الأخلاقية النادرة، تتجاوز تمايزاتِ الدين، والطائفة، والقومية، وما إلى ذلك، حتى المناطقية، والحزبية، و”الانتمائية”، أيّاً كانت. لم أعرفه إلا هكذا “الآن” وقبل نصف قرن. أنظرُ إليه دائماً صديقاً كبيراً مبجّلاً، أتعلّمُ منه بشكل أساس، كيف أؤدّب سلوكي، وتصرّفي، وأهذّبُهُ، لأكون “أهلاً” لأنْ أجاري جمالاتِ سيادته بكل فخامةِ كنوزها، وأنا أتحدّث إليه مواجهةً أو عبر الهاتف. إنّه بتقديري “المؤكّد اللامتواضع”: سيّدٌ، قرْمٌ، سميدعيُّ الروح، وهو -من دون أنْ أجدَ له شبيهاً بالتمام في مَنْ عشتُ معهم- معلِّمٌ استراتيجي، لا نظير له.
ما جعلني، أكتبُ -بفخرٍ- عن الدكتور طاهر البكاء، تلك المقالة التي نشرها السيد براين بينسون “Brian Benson” في الموقع الإلكتروني لـ”Bridgewater-State University” جامعة برجووتر الحكومية في ولاية “ماساتشوستس”، تحت عنوان: (مدرّس ينقل خبرته في الخدمة الحكومية العراقية إلى فصول الدرْس).
براين أعربَ في مقاله عن إعجابه بمحاضرات الأستاذ الدكتور طاهر البكاء في تدريس تاريخ الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مسجلاً آراء طلابه بالطريقة التي يتفاعل فيها الأستاذ مع من يحاضرُهم، لكي يوصل إليهم معلوماتٍ ربّما لا يعرفون عنها شيئاً البتّة. ولهذا نقل براين -وبتركيز- عن الدكتور البكاء قوله: (الولايات المتحدة الأميركية، قوةٌ عالمية عظمى، وعلى الجيل الأميركي الجديد ألا يقتصر علمَه على القارة الأميركية وحدها)!.
وطبقاً لمقال براين -تجدون نصّه منشوراً- كانت زيارته “محض مصادفة” للقاعة التي كان الدكتور البكاء يحاضر فيها لطلابه عن تاريخ العراق المعاصر ومجريات الأحداث في واقعه الحالي، وما خلّفه الاحتلال الأميركي سنة 2003 في العراق ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها!.

ونقل براين عن الطالب هانك قوله: “إن الالتحاق بدورة الأستاذ البكّاء ساعدته على التخلص من الصور النمطية، وفهم التركيبة السكانية للمنطقة والعوامل التي تؤثر في السياسة والعلاقات الخارجية”. وأضاف هانك: “إنه أستاذ رائع. لا أستطيع أن أعبّر عن رأيي بشأنه بما فيه الكفاية. لا أعتقد أن هناك من هو أكثر منه تأهيلاً”!.
وكان هانك ويذينغتون الذي يدرُس الفلسفة، أحد الطلاب المسجّلين في دورة “MENA” التمهيدية، أي لدراسات تبحث في شؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهم بتعبير “هانك” يأملون التعرّف على منطقة غير مألوفة بالنسبة إليهم. وشدّد على القول “إن دورة MENA أخذت بعداً أعمق بكثير عندما التقى بالأستاذ طاهر البكاء”. وتابع يقول: “من الرائع أنْ نرى مدى ارتباطه العملي بتاريخ بلاده”، لاسيما أنّه “كان في قلب الأحداث”!.
وأبرزَ براين بينسون في مقاله أنّ البكاء الذي يحاضر في بريجووتر، عمل رئيساً للجامعة المستنصرية في بغداد، وشغل منصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي في أوّل حكومة مؤقتة بعد سنة 2003. وأوضح أنّ الدكتور البكاء عمل على إعادة بناء الجامعات العراقية، وضمان أن تكون خالية من التأثيرات السياسية والفئوية، كما استعاد الفرص التعليمية الدولية للطلاب، وأعاد تعيين الأساتذة الذين تم إجبارهم على ترك وظائفهم.
بقي أنْ أذكرَ شيئاً آخر بشأنِ الدكتور طاهر البكّاء، فهو مثابر استثنائي، حوّل نحو عشرين سنة من غُربته في الولايات المتحدة إلى ملحمةٍ يوميةٍ في البحث والتأليف، والدرس والتدريس، والتواصل عبر شبكة من العلاقات الأكاديمية والثقافية والعلمية. إنّه لا يكادُ ينتهي من شيء حتى يُمسكَ بتلابيب شيئ آخر، حتّى لكأنّ الحياة عنده “تعليمٌ وتعلّمٌ”، وما لم يكنْ المرءُ في إحدى هاتين الحُسنيين، فأنّهُ ليسَ من عالَمِ هذا الرجل النادر الذي أفخرُ بالانتماء إلى جيله، وصحبته، والتتلمذِ على يديه. وما الكتابة عنه إلا جزءٌ من الامتنان والعرفان.
