مقالات

هل يفهمُ “بعض” الممثلين الدرس؟

في إحدى زياراتي إلى القاهرة، في تموز عام 1988، أردتُ أنْ أستفزَ الممثل الكبير فريد شوقي. فقلت له، ممازحًا: “لم أحببك يومًا على الشاشة؛ فأنت دائمًا تمثل الجريمة والشر والشقاوة!”.

ابتسم فريد شوقي، وضحك من أعماقه، ثم أجابني:

وهذا ما يسعدني جدًّا… معنى ذلك أنني أوصلتُ رسالتي إليك كممثل“.

       تذكرتُ شوقي، رحمه الله، وأنا أشاهد بعض الممثلين العراقيين الشباب وهم يؤدون أدوارًا في العديد من المسلسلات. للأسف، كانت تنقصهم المرونة، وينقصهم الأداء الحقيقي، وتخونهم تعبيرات الصوت. الفرق بين التمثيل والواقع، خيطٌ لا يُرى، خيطٌ شفافٌ لا يمسكه إلا الموهوبون.

      فهل يدرك (بعض) ممثلي اليوم هذه الحقيقة؟

      في عالم التمثيل، تتجلّى براعة العظماء في قدرتهم السحريَّة على إثارة المشاعر المتناقضة لدى الجمهور.

      بعضهم، رغم موهبتهم اللافتة، تجد نفسك تكرههم حين يجسدون أدوار العنف والجريمة؛ كأنما الكراهية تتوجّه إلى الشخصيّة، لا إليهم.

      مثال على ذلك، عربيًّا: محمود المليجي، وأجنبيًّا: جو بيشي؛ كلاهما قدّم شخصياتٍ عنيفة وقاسية حتى كدتَ ترفض مشاهدتهما من فرط الصدق والإتقان.

      وعلى الجانب الآخر، هناك ممثلون حين يتقمصون أدوار الحب أو الشهامة، تنجذب إليهم بمحبة غامرة، وتغمر روحك الطمأنينة.

     كمال الشناوي عربيًّا، وتوم هانكس أجنبيًّا، جسّدا بأدائهما الإنساني البسيط شخصياتٍ محبوبة، حتى خُيّل إليك أنهما لا يمثلان، بل يعيشان الشخصيَّة بكل جوارحهما.

      الممثل القدير حقًّا ليس من يكرر نفسه في قوالب نمطيَّة مملَّة، بل من يتلون ويتحوّل مع كل دور؛ يذوب في الشخصيَّة حتى تكاد لا تعرفه.

      إنَّهم أولئك الفنانون الذين يجعلوننا نصدق الوهم الجميل، ونعيش لحظات الصدق الإنساني وكأنها واقعٌ ملموس.

       رحم الله عشرات الممثلين العراقيين الأفذاذ من جيل الرواد، الذين مثّلوا بتلقائيَّة ساحرة: (سليم البصري، وجيه عبد الغني، زينب، ناجي الراوي، جعفر السعدي، خليل شوقي، حسين علي حسين، محمد القيسي، طعمة التميمي… وغيرهم، وغيرهم؛ فالقائمة تطول)

      في عموديه “الزماني”، و”الصباحي”، يُعطي الزميل الأستاذ زيد الحلّي، حيّزاً “مُحبّباً” بين آنٍ وآخر، لذكرياته الجميلة مع كبار مشاهير العرب، والعراقيين. ولا أبالغ إنْ قلتُ إنّ أيّاً من زملائنا الصحفيين العراقيين لم يبلغ شأوَ العزيز “أبا رغده” في هذا الجانب، بكلِّ ما سجّله، ووثٌّقه، ونشره. وأستثني في هذا الجانب زميلنا د. مليح صالح شكر، أطال الله عمرَه، وأتمَ عليه نعمة العافية، فهو الباحث في تاريخ الصحافة، ويبلغ في توثيقاتهِ مبلغاً يشدُّنا من تلابيبنا، ولعلّه لا شبيهَ له في ذلك، في الأقل بحدود ما أعرفُ لا ما أجهلُ!.

       إنّ الحلّي زيداً، ولا شك، ذو منهج نادر، ومدرسة متفرّدة، إذ لا قُصاصةَ تُفلتُ من يده، ولا صورةَ تهرُبُ من أرشيفهِ، ولا وثيقة لها أهميتها، إلّا وأحاطها بحراسة عينيه، وعناية يديه. تَعلّمنا منه الكثير من الدروس، وما فتئ يُزجي إلينا المزيد منها، فله التحية والمحبّة، وتمام العافية، والسؤدد. فهل يفهم بعض الصحفيين الدرس؟!           صباح اللامي

مقالات ذات صلة