هل أنصف التاريخ عبد الناصر؟



استوقفني تعليق من السِّياسي المصري المخضرم عمرو موسى في معرض ردِّه على سؤال لصحفي عربي عن رأيه بجمال عبد النَّاصر؟ فكان ردُّه أنَّ الخامس من يونيو ـ حزيران عام 1967 كان منعطفًا وحدًّا فاصلًا بَيْنَ موقفَيْنِ: الأوَّل كان ناصريًّا مؤمنًا بزعامة عبدالنَّاصر ومشروعه القومي العربي، فيما كان الثَّاني مغايرًا للأوَّل الَّذي تخلَّيتُ بسببه عن ناصريَّتي وحمَّلت عبدالنَّاصر مسؤوليَّة هزيمة يونيو ـ حزيران وكذب إعلامه في تغطية مسار الحرب مع «إسرائيل».
وبرَّر عمرو موسى وزير الخارجيَّة المصري وأمين عام جامعة الدوَل العربيَّة الأسبق موقفه بالمقارنة بَيْنَ عبدالنَّاصر وأنور السَّادات الَّذي أوضح فيه أنَّ عبدالنَّاصر كان مشغولًا بزعامة الفرد، في حين كان السَّادات مشغولًا بمسار الدَّولة إلى حدِّ وصفِه بأنَّ السَّادات آخر الفراعنة، على حدَّ قول موسى. ومردُّ هذه المقاربة بَيْنَ ناصر والسَّادات وموقف عمرو موسى من عبدالنَّاصر جديرة بالتَّوقُّف عِندَ محتواها ودلالاتها بعد نصف قرن من رحيل عبدالنَّاصر، كما أنَّ التَّسريبات الصَّوتيَّة لعبدالنَّاصر مع الرَّاحل معمَّر القذَّافي أعطتها بُعدًا متناقضًا ومشوّشًا حاوَلَ البعض التَّشكيك بموقف ناصر من القضيَّة الفلسطينيَّة إلى حدِّ تخوينه وتخلِّيه عن فلسطين.
ولكن هل أنصف التَّاريخ عبدالنَّاصر؟
والإجابة تكمن في حجم المتحقِّق في التَّجربة القوميَّة الَّتي قادها عبدالنَّاصر وبَشَّر ببزوغ شمس الحُريَّة والاستقلال والتَّحرُّر الَّتي أيقظتْ شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينيَّة.
ومهما قيل عن دَوْر عبد النَّاصر ومسار حلمه في الوحدة والتَّحرُّر من رقبة الاستعمار، فكان قدره أن يكُونَ زعيمًا تاريخيًّا في كُلِّ المنعطفات التَّاريخيَّة. فكانتْ ثورة الثَّالث والعشرين من يوليو، وكذلك كان دَوْره في تأسيس حركة عدم الانحياز وكسره لاحتكار السِّلاح. وتأميمه لقناة السويس وصموده للعدوان الثلاثي ثم تحقيقه للوحدة ودَوْره في استقلال الجزائر ودوَل أخرى.

وما أنجزَه عبدالنَّاصر خلال السَّنوات الَّتي أعقبتْ عدوان (67) أسْهَم في تحقيق النَّصر في حرب أكتوبر ـ تشرين الأوَّل الَّتي أعادتْ إلى المقاتل العربي ثقته بسلاحه وكشفتْ هشاشة وهزيمة جنود «إسرائيل»، فيما شكَّل تراجع عبدالنَّاصر عن استقالته هي من خفَّفتْ من وطأة الصَّدمة والمرارة الَّتي عاشتها مصر والأُمَّة العربيَّة، لا سِيَّما وأنَّ عبدالنَّاصر تعهَّد بإزالة آثار العدوان والسَّعي لتأسيسِ جبهة عربيَّة قويَّة قادرة على تحرير الأراضي العربيَّة المُحتلَّة.
فحرب الاستنزاف الَّتي خاضها عبدالنَّاصر خلال السَّنوات الَّتي أعقبتِ العدوان وبناء حائط الصَّواريخ، وإعادة تأهيل الجيش المصري وتطوير قدراته القتاليَّة، والعمل على تنسيق الجهود العربيَّة لتشكيلِ نواة القيادة العسكريَّة العربيَّة الموَحَّدة كانتْ في إطار الخطَّة العسكريَّة للتَّحريرِ كانتْ إيذانًا ببدء مرحلة جديدة مهَّدتِ الطَّريق لعبورِ القوَّات العربيَّة القناة وتحطيم خط بارليف في حرب أكتوبر ـ تشرين الأوَّل.. فحاول الزَّعيم جمال عبدالنَّاصر أن يضعَ الجماهير في صورة ما حدَث، رافضًا التَّخلِّي عن مسؤوليَّته إزاء ما جرَى وتحمُّله كامل المسؤوليَّة من غير أن يغلقَ الأبواب أمام تجاوز المِحنة الَّتي ألمَّتْ بمصر والأُمَّة العربيَّة.
فاستقالة عبدالنَّاصر في التَّاسع من حزيران 1967 كانتْ مناسبة للردِّ على نتائج العدوان «الإسرائيلي» وتداعياته من خلال رفضِ مصر ومعها الأُمَّة كُلُّها للاستقالة والمطالَبة بمواصلة المشوار.
وعلى الرَّغم من أنَّ التَّاريخ لم ينصفْ عبد النَّاصر، إلَّا أنَّ المُتحقق في دَوْره مصريًّا وعربيًّا ودوليًّا هو شهادة للعالَم أجمع أنَّ ناصر تركَ إرثًا حقيقيًّا للأجيال الَّتي ما زالتْ تؤمن وتنهل من مَعِين فكره وتجربته، غير أنَّ الموتَ أدركَه في لحظة تاريخيَّة كانتْ مصر والأُمَّة بحاجة إِلَيْه وإلى دَوْره، وهي بمثابة الردِّ على المُشكِّكين وشهادة للتَّاريخ ما زالتْ ماثلةً للعيان.
