(ها العيد نعيده ببغداد.. وعيد الجاي بفلسطين)..





الجزء الأول
“ها العيد نْعَيْدَه ببغداد وعيد الجاي بفلسطين”، أغنية أدّتها طيِّبة الذكر “مائدة نزهت” في أواخر الخمسينيات. تُدندن روحي بها تلقائياً عند حلول أيِّ عيد; ميلاد، فِطْر، أضحى، فِصْح. وكان الملايين ترنّموا بها أيضاً لسنوات متتالية، بحماسة وأمل، في انتظار أن يتحقق حلم العودة!
أنتبهُ فجأة إلى تاريخ اليوم.. دخلنا العيد، وها أنَّ أيامه تمضي سريعة، باردة، مثلما تمضي كلُّ الأشياء الروتينية في وجودنا.
ولكنْ هل فاتتني النكسة؟

الشهر كله حزيران. كل يوم فيه، كل ليل ونهار وما تلا ذلك من أزمنة، باتت جميعُها الخامسَ منه بالنسبة للكثيرين، والحياة نفسها تبدو وكأنها قد توقفت عند ذلك التأريخ من العام 1967، مكّن كياناً مغتصباً من إلحاق الهزيمة بدول عربية مجتمعة!! أيُّ عارٍ نحاول أنْ نغسله مع بقية عمر صار كله فلسطين. لم نرضعها مع حليب الأمهات، ولم نشربها مع أول قطرة ماء، بل سكنتنا مع هواء استنشقناه لحظة الولادة، نحمله أينما ذهبنا نحن أبناء الجيل الذي عاش المأساة ونشأ متابعاً لبعض فصولها.
وأنتبه ثانية إلى أنّ ذلك التاريخ صار الآن يوماً عالمياً للبيئة في روزنامات تشعر بقلق إزاء منغصات مستجدة “دولية اممية” لم نألفها في السابق. تنتابني غصة ومرارة حيالَ اكتشافٍ يوحي بشطب ذلك اليوم من كلِّ الأجندات، كيف لا ونحن الذين وُشِمْنَا بوجع الماساة ورافقَنا الجرحُ الذي كبُر معنا. هكذا نردِّد، ونشعر ونحسّ.. .. ونتحسّس أيضاً، كلما تم تذكيرنا بالحقيقة!

في سطوري الآتية، صور تسطع مثل ومضات من ذاكرة عقود عشتها، تتراءى أمامي تلقائياً كلما جاء ذكر فلسطين. تحضرني دائماً من دون مئات الأحداث، قمم ومؤتمرات، بيانات ومفاوضات، وعود ولاءات، معارك و عمليات، توترات وتجاذبات.. كواليس واتصالات. ومضات لا تشكل موقفاً إزاء الشخصيات والأحداث التي يأتي ذكرها في السياق، وهي قد لا تعني الكثير لمن يقرأها، لكنها تستوقفني دائماً كلما تذكرت: “أخي جاوز الظالمون المدى..” مطلع قصيدة “فلسطين” للشاعر علي محمود طه بصوت محمد عبد الوهاب الذي لحنها نداءً لكل الناطقين بالضاد: “فحق الجهاد وحق الفدا“.
قرأتها مرتدياً زيَّ “الكشّافة” ذاتَ رفعةِ عَلَمٍ من العام الدراسي 1957_1958، وفي الشهور الأخيرة من عمر الملكية. صوت جهوري أردّت أنْ أنافس فيه نبرات سعيد ججاوي مدير مدرسة شمعون الصفا الابتدائية للبنين في الموصل وهو يُلقي خطبته، حريصاً على نيل ثقة معاونه الذي علمني العربية اسحق عيسكو: “احفظا مليح أبويي رياض راح تقراها الخميس الجيي بتحية العلم “، ” نعم استاذ ستلازمني ماحييت “.. ..

الباص رقم 4
يمر عقدٌ على رفعة العلم تلك، أنهيتُ خلالَه الابتدائية ثم الثانوية، وها أنا طالبٌ في الجامعة. ألتفت فجأة الى ما يجري من حولي في تلك الظهيرة القائظة من صيف بغداد. أصوات من الشارع والدكاكين والمقاهي، تجتمع كلها، وكأنها توقظني من هدأة طويلة، مُذَكِّرةً إيّاي بأنّ تلك اللحظة التأريخية التي انتظرناها طويلاً قد حانت أخيراً. ثم أميُّزُ بضع كلمات تمر من جانبي رأسي، مع نتف الشعر الذي استسلمَ صاغياً مُصغياً بين أصابع الرجل الواقف خلف المقعد العالي المغلف بجلد صناعي (مُشمّع) بُنّي داكن:
“يكَولك ييزي عاد، هاي صار عشرين سنة بعد النكبة، وكَبلها.. ووراها،. صار الوكت واجت الساعة“!
ترنّ كلمات “ستّار” الأسمر، صاحب أشهر صالون حلاقة في سوق البتاويين العريق ببغداد، في مخيلتي بعد مرور نحو عشر سنوات من تاريخ إلقاء تلك القصيدة، مثل دقات ناقوس رتيبة، حزينة. يدفع كرشه المكوَّر أمامه بتثاقل، وهو يردّدُ الكلام عينَه أمام أيِّ داخل جديد، زبوناً كان أم جاراً أم مستطرقاً، جاء يتنسّم الأخبار من الراديو الذي ينقل أنباء الحرب، ويبثُّ أغنيات الانتصار على عدو آن أوان القائه في البحر!!.

اتركُ المكان مسرعاً ما إنْ أسمع البيانات، من دون التفكير بدُشٍّ سريع أو اكتراث لبقايا الشَعر الذي تم قصه للتوّ وهو ينهش جسمي المتعرّق، ليحملني الباص رقم 4 من ساحة “النصر” الى “الميدان” حيث مقر”صوت العرب” أول جريدة يومية أعمل فيها محرراً لصفحة “الحياة الجامعية” الأسبوعية. زقاق يتاخم مبنى وزارة الدفاع، ينظر اليه المارة بشكل مغاير اليوم، لما يعقدونه من آمالٍ على مكان كهذا، بعد أنْ حانت ساعة الرد والحل. بل إنني رأيت الناس عبر نوافذ الباص الأحمر، وهو يجتاز شارع الرشيد ومن قبله” السعدون” وكأنّهم في مشهد سينمائي ضخم يجري تصويره في الساحات والفروع و”الدرابين”، وكل الأمكنة التي مررت بها.

الكل يترقب التطورات والمستجدات الآتية من هناك، من تلك الميادين البعيدة، حيث المعارك تدور في قلب “وطني حبيبي وطني الأكبر”،فيما أصبح “كل شيءٍ من أجل المعركة” شعاراً للمرحلة، بما في ذلك صفحتي الجامعية التي تحوَّلت الى مواد صحفية تُحشد بهذا الاتجاه، تكيفتُ تلقائياً مع الحدث، فبادرتُ الى القيام بما يتناسب مع الموقف، قبل أنْ يُبلغني المصري علي منير “سكرتير التحرير” بالأمر شفاها.

مقابلات مع جامعيين أجدهم في معظم الكليات وخصوصاً الطبية منها والصيدلة ومعاهد التمريض والصحة، قريبة كانت أم بعيدة، موجودين “تحت الطلب” رغم اضطراب الدوام في موسم امتحانات وأجواء عطلة صيفية جديدة. حملات للتبرع بالدم، و كلمات تملؤها الحماسة، لدعم المعركة، وأحاديث مع قطاعات أخرى مثل رجال الأعمال وتجار وموظفين وحرفيين على أهبة الاستعداد للتبرع بالاموال او الذهاب الى الجبهة. تجمعات عفوية في المقاهي وأمام محلات “الشربت” النشطة صيفاً، حيث الراديوهات كلها على موجة واحدة.
أيام أربعة أو أقل بعد الخامس، حتى عرفنا أنَّ كلَّ شيءٍ قد انتهى. استيقظ العراقيون والعرب والعالم على دويِّ الهزيمة: أين باتت كل تلك البيانات والأناشيد إذن؟ سؤال ستجيب عنه الأيام اللاحقة.. أشياء كثيرة، كثيرة جداً، مُحزنة، مثيرة، محيّرة، ومذهلة فيما قرأناه وسمعناه وشاهدناه!! ولن أخوض في التفاصيل لأنها ليست من صلب ما أنوي كتابته، هي موجودة في صحف وكتب وتسجيلات وفيديوهات كثيرة تحكي ما حصل و تكفي لأن تُشبع فضول السائلين.

في التاسع من حزيران، وقبل ان تضع “حرب الأيام الستة” أوزارها تماماً، وجدت نفسي أنقادُ مساء الى مبنى الجريدة رغم قناعتي التامة بأنَّ الحاجة انتفت الى أية مواضيع من نمط الأيام الأولى للحرب، وهل ثمة أيام أولى، وأخرى أخيرة؟
في الطريق، تملّكني شعور بانكسارٍ تسهل قراءته على كل الوجوه التي صادفتني. وأثناء صعودي الدرجات الى الطابق العلوي للجريدة حيث أقسام التحرير، لاحظت تجمعاً لافتاً غير مألوفٍ على باب غرفة رئيس التحرير فوزي عبد الواحد، تحديداً. كان الجميع يقفون بوجوم واضح يسيطر على جو المكان وكأنَّ على رؤوسهم الطير، وهم يصغون باهتمام الى صوت جمال عبد الناصر يلقي خطاب التنحي. بكى أحدهم مردّداً: “انعل.. .. شلون يستقيل؟” لم يكن يعمل في التحرير لأنني أعرف معظم الزملاء هناك، جاء بقدح ماء بارد للأستاذ فوزي الذي قال بصوت تخنقه عبرات لمحناها من خلف زجاج نظارته السميك: “هسه باﭼر تطلع مظاهرات بكل مكان، راح تنكَلب الدنيا“.
في الصباح التالي ظهرت الصفحة الأولى من الجريدة بكلمة واحدة ضخمة: “نرفض” مع صورة كبيرة جداً للرئيس عبد الناصر.
غداً الجزء الثاني
