من مذكرات “مهاجرة عراقية” عن مدينة “الكيثراويين”..بقلم مانوشاك بنت عمو ديكران..


سأحدِّثُكم اليوم عن مدينةٍ، ليست في جمهورية افلاطون، ولا من نسيج الخيال من قصص ألف ليلة وليلة. هذه المدينة اسمها محطةK3. مدينة صغيرة جداً يجتازها المارّة يومياً من دون أنْ يعرفوا ما هي ولا من يسكنها.
المدينة عبارة عن محطة صغيرة بناها الاستعمار الانكليزي من أجل ضخّ النفط العراقي الى موانئ البحر الأبيض المتوسط عبر الأراضي السورية واللبنانية، وأطلق على هذه المحطة K3 اسم يكاد يتعدّى الحرف الواحد يصاحبه رقمٌ بلغة المستعمِر، سكنها أهل البلد بكل أطيافه فكان عمر مع سرگون وعلي مع آشور وحسين مع ميناس وبطرس مع بكر يدرسون معاً ويعملون معاً ويلعبون معاً.
بُنيت في هذه المحطة مدرسة واحدة مع جدار واحد يفصل البنين عن البنات، ولها من دور العبادة اثنان: جامع واحد وكنيسة واحدة، كان يؤذن في الجامع حاج كبير في السن بالكاد يستطيع المشي ولكن كان صدى صوته في فجر كل يوم يملأ المعمورة حينما يبدأ أذانه بكلمة (الله اكبر).
جميع من في المحطة بكافة أديانهم ومذاهبهم كانوا يصحونَ على صوته العذب هذا الذي لا يزال لحد هذا اليوم يرنُّ في أذني ويتردّدُ صداه في قلبي.
لم نكن نعرف أنّ للاسلام مذهبين، لأنّ المسلمين كانوا يدخلون دار عبادة واحدة، وكانت هناك كنيسة واحدة للكلدان وللآشوريين وللأرمن وللسريان الكاثوليك والأرثوذكس.
ولم يكن لنا نحن الأرمن رجل دين مقيم في المحطة وإنما كان يأتي فقط في الاعياد والمناسبات، فكان الكثير من اخواتنا المسلمات بالعباءة السوداء سباقين للجلوس في المقاعد الامامية مشاركين لنا في صلواتنا وفي افراحنا بأعيادنا.
كما كان المسيحيون يشاركون إخوانهم المسلمين بكافة اعيادهم وافراحهم واحزانهم ومن ضمنها زيارة ضريح الشيخ حديد لتقديم الذبائح والنذور.
كان في المحطة ما يقارب الـ 500 دارٍ وكان الجميع يتسوّقون من المخبز نفسهِ، والبقال نفسهِ، والقصاب نفسه، من دون أنْ نسمع ابداً من يقول كلمة (حرام أو حلال).
وكان لنا مستشفى واحد، فإِنْ مَرِضَ أحمد وكان ميناس جنبه حمله وعالجه وإنْ احتاج لدم تبرع له بسرعة وبغير تردّد.

وكان في المدينة أيضاً مركز شرطة واحدٌ ولا أذكر من منتسبيهِ، سوى شرطيين اثنين، إذْ نادراً ما احتجنا الى حماية المركز، لكوننا أبناء عائلاتٍ متحابّة تكادُ تكون واحدةً، فكانَ أحدُنا يحمي الآخر، بحيث نادراً ما ترى أحداً يقفلُ باب بيته.
كان لدينا مصوّران محترفان يمتلكان كافة صور أهالي المحطة وضيوفها، وكانوا يرتّبونها في أرشيفهم الخاص.
كان يحيط بالمحطة سياج ذو بابين أحدهما الرئيس لمرور السيارات والآخر صغير للمشاة.
كبر الاطفالُ ورحلوا عنها بحثاً عن دراسة أعلى، تبعهم بعدها أهاليهم بعد احالتهم على التقاعد حاملين معهم أخلاقهم المميزة التي تربّوا عليها والتي لا يزالون محتفظين بها لحد يومنا هذا. وأغلب أولئك الاطفال تفوقوا بالدراسة وتقلدوا مناصب رفيعة في البلد، واصبحوا مسؤولين كباراً، واختصاصيين في كافة المجالات العلمية والفنية.
قرَّر أحد أهالي المحطة وهو مغترب في أمريكا واسمه هرمز بناء موقع جميل يحتوي على العديد من صور أهالي المحطة وعناوينهم وخلال فترة قصيرة استطاع من خلال هذا الموقع أنْ يلمَّ شملهم، وصاروا يتواصلون مع بعض بعد فراق طويل دام اكثر من ثلاثة عقود، واصبح (الكيثراويون!) يجتمعون سنويا ويحتفلون مع عوائلهم تحت عنوان” لقاء الأحبة ” قادمين من كافة أنحاء البلاد لإحياء أمسيات شعرية تتغزل بالمدينة الفاضلة وأهلها، واختاروا بالاجماع أنْ يكون السيد هرمز هو المختار الأزلي لهذه المدينة الفاضلة.
هذه الرواية ليست من وحي الخيال، وليست عن مدينة العجائب التي زارتها (آليس في خيالها)، انها محطتي التي افتخر انني ولدتُ وكبرتُ ودرستُ فيها، إنها ليست واحدة من دول الغرب، انها محطة كي ثري K3 التي ما زالت موجودة في وطني 🇮🇶 الحبيب وبالتحديد قرب قضاء حديثة في محافظة الانبار .
مشاهدة التعايش (الكيثراوي K3) في كافة مدن عراقي الحبيب كان دائما وسيبقى ابداً من أحلى أحلامي ..
اختكم العراقية في المهجر:
مانوشاك بنت عمو ديكران

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حديثة (الأنبار)
تجدد لقاء أهالي منطقة (k3) في حديثة غرب الأنبار، للمرة الثامنة منذ انطلاق الفكرة “التئام الشمل” عام 2011، إذ يجتمع السكان القدامى وهم من طوائف وأديان مختلفة، قادمين من داخل العراق وخارجه، لاستذكار الماضي والأيام الجميلة في سبعينيات القرن الماضي.
كي 3، مدينة صغيرة في أقصى غرب العراق، أنجبت العلماء والأدباء والسياسيين، وسكنها المسيحيون والأكراد، إضافة للمسلمين، ومعظمهم كانوا كوادر في محطة تصفية النفط هناك.
انطلقت الفكرة على يد الدكتور عبد صالح فياض، وهرمز أبو سامي (مغترب حالياً في أمريكا)، على أساس أن يتجمع السكان القدامى من مختلف الطوائف والأديان مرة واحدة كل 5 سنوات.
قرر المنظمون أن يكون اللقاء مرة واحدة كل سنة بدلاً من 5 سنوات، بعد توقف دام لـ 3 أعوام خلال حقبة داعش، قبل العودة عام 2017.
تضمن الحفل فقرات فنية كدبكة “الجوبي”، والعزف على العود وسط حديث مستفيض عن الذكريات الآسرة بحضور شخصيات بارزة كقائممقام حديثة عباس حسين، ومدير ناحية بروانه أحمد غزال.
