أدب

“من أدب الرسائل”..بصحون “الباقلاء بالدهن”..بدأ أطولُ يومٍ في التاريخ*!! 

   لا نريد لحماستنا أنْ تفتُر، فنغفل عن تجربتنا في “أدب الرسائل” التي شَرَعْنا بها، ووجدَت لدى كثيرين من أصدقائنا وزملائنا، ترحيباً، بل تشجيعاً، وحضّاً، وحثّاً على ممارستها من آن لآن، ففي رسائل الودّ بين الأدباء، والصحافيين، والمثقفين، والأكاديميين، و”أهل القلم” في العموم، ما يترك بصماتِ جمالٍ في قلوب القرّاء، يشكّل تكرارُها، ميلاً بين جميع المتعلّمين إلى العناية بذكرياتهم، عبر رسائلَ، لا يكتبونها “چفيان شرْ مُلّه عليوي” بل يعطونها شيئاً من اهتمامهم، ودقّتهم، وتصحيحهم، لكيْ ترقى بأسلوبهم إلى شيءٍ من “أدب الرسائل”. والأمّة التي تعتني بلغتها، هي الأمة الحيّة، التي لا تقبل لعقلها المُوات، فكيفَ الحالُ، ونحن نقرأ ونكتبُ، بلغة “القرآن الكريم” الذي تُحيي عجائب لغته العظام وهي رميم. وإليكم رسالتين من نوع ما نتحدّثُ عنه، وندعو إلى تعزيز فنّه:   

                                                              “برقية”  

أخي الحبيب د. عبد المطلب محمود العبيدي المحترم

   تحيةَ محبّةٍ خالصةٍ، وبعد:

   أذكرُ إذْ أذكر، مطعمَ “أبو عبد”!!. وعلى الحكاية، لم أشأ الكسر، احتراماً لذكرى اسم الرجل الفلسطيني المُرتَّب، الفنّان في كيفية صُنع “الباقلّاء بالدهن”. يومَها انتهى عملُنا المشترك في صحيفة “الراصد” بمطبعة الحكومة، لتُولمني قائلاً:

   -ما رأيُكَ بصحن “عالوچة” من “أبو عبد”!!.

    كنتَ بذلك قد أثرتَ فيّ تشهّيَ أكلةٍ اعتدنا على عِشقها، هي والعجيبِ “الجرّي”، حتى لقد قلتُ فيهما شعراً (لأيِّ اللّذتيْنِ يطيبُ ذِكْرُ….ومِنْ زمنٍ لذي ولتلكَ عِطرُ )، كلاهما رخيصُ الثمن، عالي الشأن لذّةً، وبهاءً، واشتهاءً ، فأطيبُ الطعام ما بسُطَ، وراقتْ له النفس، حتى لو كان خبزاً وبصلاً، ويا ما أطْعَمْنا بطوننا، ونحنُ بعدُ طُلّاب ابتدائية، بـ”العبمه والصمون”، أو “بصمونة الإعاشة اللذيذة وكاسة لبلبي”، أو “بحلقومة في كسرة صمونة أو بين طبقتي بسكويت”. كنّا بها نأنسُ، نكتفي، ونرفعُ أيدينا الى السماء، حامدين الله على ما آتانا.

    أعودُ -أيها الأخ الحبيب طِلْبَه- إلى جلستنا في المطعم الصغير لـ”أبو عبد”، في مبتدأ شارع الكفاح من جهة باب المعظم، كان “المُطيْعِمُ”، قِبالةَ سينما، متروكة، متهالكة البناء، لم أعدْ أذكر اسمها بالضبط، ربما كان “ديانا”.. المهم أنّنا في تلك الظهيرة الجميلة، رصفنا سيارتي “البولسكي المُچرقعة”، ودَرَجنا إلى المطعم بشوقِ من سيلتقي بمعشوقتهِ!.

     ضربنا الصُحَينين الأولين، بسرعة قياسية، فشعرنا بالانشداد إلى هذه الوجبة الراقية التي يُعدّها “أبو عبد” بهيئته النظيفة، السامقة، وما إنْ هَمَمنا بالانصراف، حتى قلتَ سعادتُك، مُنضياً إبهامك، وملوّحاً به في إشارة بهجةٍ بهذه “الباقلاء بالدهن” اللذيذة، مادحاً إيها: لوزينه وليست باقلاء، فما رأيكَ بصحنين ثانيين؟!..قلتُ لك: لم لا!. ولم نغادر المكان حتى أجهزَ كلٌّ منّا على ثلاثةِ صحونٍ، لم تُتْخمنا لكنّها أبْهَجَتْنا بصريح ما أذكر.

     لكنَّ جلالتك، يا ملِك اشتهاء “طيّبِ الطعام”، لم تكتفِ بذلك بل قادَنا كرمُك الباذخ إلى كأسين من الّلبن المخيف بلونهِ وطعمهِ وما فيهِ من بقايا زبدةٍ ذهبيةٍ كان اللبّان، أو بائعُ الّلبنِ قد تركها تجتذب أنظار الشاربين. احتسينا اللبنَ، لكنّ جنابَ غضبَتِكَ البِطنية لم تهدأ، ولم ترضَ بما رَزقَها كرَمُك من لذيذ الطعام والشراب، فآليت أنْ تُكملَ ذلك بالتَحلية، فخيرُ الطعامِ ما انتهى بها!.

    لله درُّك دكتور. إذ لم تكتفِ بكلِّ ذلك، حتى أقسمت عليّ أن نشتريَ نصف كيلو من “البقلاوة” من محلٍ قريبٍ في الشارع نفسهِ، وفي طريقنا بالسيارة الى بيتك في بغداد الجديدة على ما أذكرُ “خبزنا” جميعَ ما في كارتونة البقلاوة. ثم أوصلتُك حتى شارع سُكناك، فكانت المفاجأة الغريبة، عندما لقيتك، صباحَ اليوم التالي في صحيفة “القادسية”، إذ كنّا جنديين، صحفيين فيها، ونعمل في أكثر من مكان لنعيش جيداً، قلتَ لي، بعد أنْ سألتُك عن حالِك: “واللهِ مو زين البارحة صار عندي سوء هضم”!!!!. 

     محبتي واحترامي لجلالتك، أخي ابا يزن الورد.

                                                       أخوك

                                                 صباح اللامي 

                                           كالغري، ألبيرتا، كندا

                                                17-أيلول-2024

صديقي الرائع أبو سيف ال(صباح).. طاب يومُك.. فلم أتوصل بعدُ إلى وقت صباحِك أو مسائِك.

يا صديقي وأنت تستعيد “ذكرى” صحون باقلاء (أبو عبد) ومحله الكائن “براس محلة الفضل” كأنك رفعتني على بساط ريح إلى أجوازٍ عُليا وإن ظلّت “حوادث” ذلك اليوم عالقةً في بالي أستعيدُها كلّما جالستُ أصحاباً متعكّري الأمزجة لأُغيّر من “طعم” الجلسةِ بحديثٍ يَفْغَرون له أفواهَهم من تفاصيلهِ اللذيذة.

أظن هناك فيلم حربي عنوانه (أطول يوم في التاريخ) كان يومُنا “الباقلّائي” ذاك قريبَ الشَّبَه به..

السينما المقصودة كان اسمُها (ميترو) وهي مما أسَّسته شركة (ميترو غولدن ماير) الأمريكية للسينما في عددٍ من العواصم العربية ربما ضمن مشاريع ما سُمّي ب(النقطة الرابعة) من نقاط مشروع الرئيس الأمريكي آيزنهاور، أما شريكانا في الأكلة فكانا الزميل سلام دوحي المخرج الإذاعي الظريف والمحرر في (القادسية) الجريدة لا في سوح القتال.. واشتبه على الذاكرة اسم الزميل الرابع.

أعود فأكرر ذلك.. كان واحداً من أجمل النهارات إذ كررنا طلب صحون الباقلاء متخابثين كي لا نُتيح فرصة “إخلاء” مائدتنا لمن كان ينتظر فراغنا من الأكل ل”يحتلها” بعدنا!.. صَبْيَنَة أو سمِّها ما تشاء..

واسلم لأخيك المُحبّ الدائم..

                                                  عبد المطلب محمود

                                                   بغداد، 18-9-2024

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كلانا يتحدّث عن ذكريات عمرها الآن أربعون سنة.

مقالات ذات صلة