أدب

 من “أدبِ الرسائل”:(….شكوى صاحبٍ..طفحتْ لواعجُهُ فناجى صاحبا)!  

    “برقية”-خاص

    “أدبُ الرسائل”، ويُسمّونه أيضاً “فنّ الترسُّل”، ويوم كنّا بَعدُ فتياناً تعرَّفنا في المجلّاتِ والصحفِ على تبادلِ “رسائل التعارف”، وفي أيّامنا هذه حيث نعيش عصر تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، صار الناس يتعارفون عبر شتى بقاع الأرض، وأصقاعِها.. وأياً كانت أشكالُ “الترسُّل” فهو نوعٌ كتابات الأدبِ، لاسيما عند من يَعدّون أنفسهم منتمين إلى أهل القلم.  

    وفي “برقية”، نجرّبُ للمرة الأولى الخوضَ في غمار هذا “الأدب الرفيع” بما فيه من صِدْقِ المودّة، ورقيّ المشاعر، وحُسن التعبير، لكي نرتقي بتواريخ العلاقات الصداقية الأخوية التي تمتد لعقود، فننقذها من دنيا النسيان والتلاشي إلى أثير التسجيل والحفظ والتذكير، عسى أنْ يتعلّم منها جيلٌ جديد ينشأ، ربّما يفتقرُ إلى مقوّماتٍ عشنا بها وعاشت بنا. ولم نجد مفتتحاً غيرَ بيت الجواهري يناجي به صاحبه الوِتري “إيهٍ عميدَ الدار ، شكوى صاحبٍ طفحتْ لواعجُه فناجى صاحبا” نستعين بهِ في تقديم رسالتيْ الصديقين، الزميلين، الكاتبين د. طه جزاع، وصباح اللامي، إيذاناً ببدء مشروع “أدب الرسائل”.  

     ظنّ اللامي، غياب جزّاع لشهور “زعلاً” من أمرٍ ما، وخاطبه قائلاً: (قلبُك طاهرٌ يا طه، وأنت لا تزعل إلا من أمرٍ مشين، فلعلي ارتكبتُ ما لا تُحمدُ عقباه)، بيدَ أنّ الردَّ جاء سريعاً من “أبي ياسين” د. طه جزاع، نافياً، مفسّراً، وبعد ردّ اللامي، اتّفقاً على اقتراحِ النشرِ. وإليكم الرسالتين:

    أبو سيف حبيبي،

     ما عاش الذي يزعل منك، أو يزعّلك. أنا ايضاً تقدّمتُ في السِّن، فأصبحتُ مثلَك مرهفَ الحسّ، كثيرَ الندم، عميقَ الحزنِ، وصارت المسافةُ بين مآقي عيوني وأجفاني صفراً ، مثلما يُقال في المسافة بين المقاتل وعدوّه . فلا تَختبْر دموعي بمثلِ هكذا مسافةٍ قاتلة، ولا بمثل هذا الكلام الثقيلِ، إلّا إنْ شئتَ أنْ تهيج في نفسي مكامن الأوجاع .

اطّلعتُ على ماكتبتَه عن كتاب الزميل والأخ العزيز الدكتور نعمان آلهيمص ” العابرون “، وفضلَك في استذكاري، وكرمَك في ذكر اسمي، ولم أعلّق لأني خجلٌ أمام كلماتِك التي غمرْتني بها ، وأنت أعرف مني بمكانتك في قلبي، ومنزلتك في نفسي، التي لا تَخفت بعدم التواصل الآلي ، ويشهدُ اللهُ أنك أتيتَ على خاطري الأسبوع الماضي – وانت حاضر فيه دوماً – وتمنّيتُ لو اتيحت لنا فرصة أخرى للقاء في اسطنبول أشبهَ بالذي جمعنا قبل ثلاث سنوات، حين وجدتُك قادماً من غربتك الباردة الغريبة تكادُ لا تتمكن من جرِّ خطواتِك الثقيلة فجعلتُك تهرول في شوارعها وكأنك ابنُ العشرين، ووجدتك متردداً فشددتُ من عزمك، وكنتُ أنا أيضاً بحاجة للقائِك، واكتشفتُ بعد كلّ تلك السنين التي مَرَقت في حياتنا مثل برقٍ خاطف، بأنّ الغربة قد زادتك رقةً وعذوبةً وهدوءاً  واحساساً، وألماً يطهر الروح ويشعلها ويمنحها وهجاً لا تخطئه العين، مثل ذلك الوَهَج الذي ينبعث من شجرة صنوبر منفردةٍ وحيدة في أطراف غابة مسّها لهبُ الحريق.

  لم يشغلني عنك النسيان لا سمحَ الله أبا سيف العزيز ، غير أنّني الآن منشغلٌ بالكثير من الأمور التي أشعر بأني لم أعد امتلك الوقت لإنهائها، ومرهقٌ بالمشاغل بعد عودتي للتدريس في جامعة أهلية، لكني أرجو أنْ تتحقق أمنية اللقاءِ بك في أيٍ من بلادِ اللهِ الواسعة، قبل أن تُصبح الأماني أوهاماً مثلنا .

محبتي التي تعرف. التي لا تخبو  ولا تنطفىء ، فلم يعد في العمر متّسعٌ لتبديل جلودِنا، أو تغيير اصدقائنا الذين هم قدرنا، وحظنا الجميل في هذه الدنيا .

                                                     طه جزاع

                                            بغداد ليلة 18-آب-2024

  أبا ياسين الورد :

   بدءاً ، أعانكَ اللهُ على عودتِك للتدريس في الكلية الأهلية، لكنْ صدّقني هذا العناءُ أفيدُ للعافيةِ من السكون، وبلادتهِ ، وخِذلانهِ. ومع ذلك فعونُ الله مطلوبٌ. أقول: من دون مبالغةٍ ومن غير تفريطٍ في المشاعر ، بكيتُ إذ قرأتُ أمسِ ليلاً كلماتِك النابضة بجميل مشاعرك وأحاسيسك النبيلة.

    هنا في آخر دنيا الغربةِ (بمدينةِ كالغري الكندية) تتضاعفُ حالاتُ التوتر العاطفيّ وتتفاقم حسياسية المرءِ حتى لتُبكيه آيةٌ من قرآنِنا الكريم أو بيتٌ من شعرِ أو لحنٌ موسيقى أو حتى آهةٌ في أغنية. في الغربة، أخي أبا ياسين يتعلّمُ المرءُ أبجدية حبّ الوطن من جديد، يتعلّمُ بحسٍّ مختلفٍ كيف يتعرّف إلى محاسنِ أصدقائِهِ ويكتشفُ بعينين ليزريتين فضائلَهم، وجمالاتِهم، وكراماتِهم، أيضاً..في الغربة تشتاق النفس المولعة بحبّ الناس، إلى قلوب الذين بينها وبينَهم أواصرُ ودٍّ، ووشائجُ متعةِ الصُحبةِ، وعُرى صداقةِ عمرٍ بأفراحهِ وأحزانهِ، بنجاحاتهِ وخسائرهِ.

    أنتَ يا أبا ياسين إنسانٌ نادرُ الوجود، ولكَ من صفاتِ النُبل والكياسةِ والعقلِ والجودِ والسموِّ ما أرقبُه دائماً ولا أنساهُ، بل أتعلّم منه وأتهجّى حروفَهُ وأعلّمه غيري، زاعماً أنه من بِنيتي وسجاياي. لذا لا شيءَ يغبِشُ رؤيتي مواطنَ الجمالِ في طويتك. أقول ذلك بصدق وبإخلاص.

    وأنا، إذ (“أعلمُ أنّ كلَّ نفسٍ ذائقة الموت”، لكنْ ليستْ كل نفسٍ ذائقةُ الحياة).. كما يقول جلال الدين الرومي، أحسبُ أنّ ذوْق الحياة، أعني “ذوَقَانَها”، (وهو مصدرٌ صحيحٌ لم تُسْقمْهُ العاميّةُ) لا يكتمل إلا بالصُحبة المُختبَرة بتجارب عقود من الزمنِ، وتصاريف أيّام، وأيّام، فمثل هذه (الصُحْبة النادرة) لا يُفرّط بها إلا غشيم، أو جاهل، أو  ذو “مركّبِ نقصٍ” يُشتهرُ كُمونُهُ في الاستبداديين من أنماط البشر الّذين يبنون بقوّة، ويخرّبون بقوّة أشنع، لأسبابٍ لا يمكنُ أنْ تبُرّرَ أو تُسوِّغَ “همجيةَ ساعةٍ” تمرُّ بهم، فتهدِمَ ما بنتهُ صعابُ السنين، ومرارُ الدروس!.

     نعم، أخي أبا ياسين، أذكُرُ دائماً “اسطنبول” جميلةَ جميلاتِ مدنِ العالم في تلك الرحلة التي عرّفتني فيها على الدكتور شامل جبار بارزركان، ذكرَهُ اللهُ بالخير، عندما أمسكَ قدمي مسكّةَ “كافرة”، كِدّتُ فيها ألفظ آخر أنفاسي، ثم بعدَ سويعاتٍ، شرعنا بمفتتح رحلة عَرّفتني فيها على اسطنبول، شارعاً شارعاً، مقهى مقهى، مطعماً مطعماً، ومسجداً مسجداً، حتى صرتُ بعد زيارة وأخرى “أتأستذُ” برؤوس من جئتُ بهم إلى اسطنبول من أفراد أسرتي لمراتٍ ومراتٍ.

     وأذكرُ إذ أذكرُ، أنّني قلتُ لكَ إنّ ساعاتِ المشي الماراثونيّ لعشرين يوماً بتمامها، والتي كنتَ في غضونها تحثّ الخطى كي ألحقَ بك، هي التي أعادت إلى قدميّ صحّتهما، حتى لقد تحوّلتُ بعدها إلى “مشّاءٍ”، كعهدي بالمشي أيام الشبابِ والكهولةِ، وأظنُّ أنني اليوم عُوقبتُ بالكفِّ عن ذلك بعدما دخلت قدماي في مرحلة “الأكسباير”، برغم مراجعة أطباء كثيرين!.            

   اللهَ أسأل أن يرحمنا جميعاً، وأنْ يحفظك لأهليك ومحبيك وأصدقائك ويُجزلَ عليكَ من تمام العافيةِ والسكينةِ وخيرِ محبةِ الناس.

                                                       صباح اللامي

                                   “كالغري” كندا صبيحة 19-آب-2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *