رأي

  منذ عقدين كان الناس يظنّون أنّ “شمساً جديدة” قد أشرقت!!  

العراق.. أرضٌ لا يهدأ أنينُها، ولا تنتهي كوابيسها. وطنٌ تتقاذفه الأسماء الكبيرة، بينما تنزفُ روحُهُ، تحت وطأة الزيف، والفساد، والخيانة. مرحلةٌ مضت قالوا فيها إنهم كانوا يحكمون على نهج عمر، فاشتدّت قبضتُهم، وخاضوا المعارك بصلابة، وواجهوا التحديات بقلب لا يعرف التراجع. بذلوا الغالي والنفيس، وبذلك راح الوطنُ ينزفُ من كل جسد، بعدَ أقنعوا الناس أنّ القوة وحدها تكفي لصنع المجد. لكن الحساب كان خاطئاً.

     ثمّ استهانوا بعدوّ الداخل، وظنوا أن الخطر لا يأتي إلا من الخارج. غاب عنهم أن السكوت قد يخفي حقدًا دفينًا، وأن الأيدي التي امتدت للسلام قد تعضّ يومًا. وعندما استبدلوا الحكمة بالعنف، سقطت دولتهم فجأة، وتحول الحلم إلى طعنة في الظهر

      ثم تغير المشهد، وارتفعت راياتٌ جديدة تنادي باسم علي. فمن كان يحلم بعدلٍ يشبه عدل الراشدين، وبسماحةٍ كسماحة النبوة، ورجولة الفكر والموقف، ظن الناس أن شمساً جديدة قد أشرقت. لكن العراق لم يحالفه الحظ هذه المرة أيضاً. جاءت وجوهٌ لا تعرف شيئًا من حكمة علي، ولا تفقه لغة أرض الرافدين، ولا تحمل من مبادئه سوى الشعارات الجوفاء. تسلّلت الطائفية تحت عباءة “المظلومية”، وتحول العدل إلى “تقاسم سلطة” جوهره (المحاصصة)، وارتفعت منابر لا تنطق بالحق، بل تسبّح بحمد الأحزاب. غابت العقول الرشيدة، وأصبح الوطن مائدةً يتنازعها الوافدون باسم الدين، أو العشيرة، أو الولاءات المشبوهة

     والعراقيون، بأصالتهم وطيبتهم، أعطوا “الحُكّام” الفرصة تلو الفرصة، على أمل أن يبرز بينهم رجلٌ يتحلّى ببعض حكمة علي، أو مسؤولٌ يتجلّى فيه بعض شجاعة عمر. لكنّ نوافذ الأمل ظلت موصدة، فتحطمت الآمال، ولم تنجب الساحة إلا المزيد من الخيبات. وها هو العراق، بعد سنين طويلة من المحاولات، لا يزال يراوح حبيس المأساة. لم ينقذه ما زعموا أنه “عدل عمر” بقوته، ولم تحتضنه ما زعموها ” حكمة علي” برحمته.

      والحقيقة المرة التي نتهرّب منها هي أن البلد بحاجة إلى كليهما “قوّة عمر” و”حكمة علي”، فالعراق لا يُبنى بالشدّة وحدها، ولا تُقام دولته بالحكمة المجردة. عمر بحاجة إلى قلب علي الواسع، وعلي يحتاج إلى حزم عمر وحسمه. هما جناحا العدالة.. وبفقد أحدهما، يضيع كل شيء

    فأين نحن اليوم؟ هل نقفُ إلا على أنقاض وطن أنهكته التجارب الفاشلة، ومزقته الولاءات الضيقة، وتلاعبت به أيادٍ غريبة. شعبٌ مشتتٌ بين المنافي، وكرامةٌ تُباع في سوق الولاءات، ونارُ صراع داخلي لم تترك شيئًا إلا التهَمَتهُ. سَقوا الناسَ سُمَّ الطائفية، واستبدَلوا الهوية الوطنية بالانتماءات السياسية العابرة، وصار الولاء للطائفة أو الحزب أو الخارج، أقوى من الولاء لأرض الرافدين

     فمتى تنكسر هذه الحلقة المفرغة؟ متى نفيق من غفوتنا؟ متى نتوقف عن ترديد الأسماء ونبدأ بتحقيق مبادئها؟ لا خلاص للعراق إلا إذا اجتمعت فيه حكمة علي وحزم عمر. لا نهضة تُبنى على انقسام، ولا دولة تقوم على محاصصة. نحتاج إلى رجال لا يتاجرون بالرموز، بل يحيونها في أفعالهم. رجال لا يرفعون اسم علي لخداع البسطاء، ولا اسم عمر لقمع المعارضين، بل يقتدون بعلي وحكمته، مثلما يقتدون بعمر في حكمته. 

    يا أبناء العراق.. لا تختاروا بين علي وعمر، فأنتم بحاجة إليهما معًا. لا تجعلوا الدين أداةً للفُرقة، ولا الطائفة سجناً للوطن. أحبوا عليًا كما أحببتم عمر، واذكروا عمر كما تذكرون عليًا. فبدونهما، ستظلون في عزلة التاريخ.. غرباء في أرضكم، وأسياداً بلا مملكة. وستكون حالكم، بوصف المثل العراقي القديم: (مِتْيِه المَشيتين)، أي لا حظي بعدل عمر، وحزمه، ولا نالته حكمة علي ورحمته.   

مقالات ذات صلة