“مريم السناطي”..الصحافة حياة تتجاوز الحدود..إشارة تذكيرية..



مريم السناطي تمثل أنموذجًا مشرقًا للصحفية العراقية المثابرة، إذ جمعت بين الاحترافية العالية والإنسانية الدافئة في تعاملها مع زملائها في جريدة الجمهورية، حيث تولت مسؤولية الصفحة الأخيرة بتميز لافت. لم تكن مجرد محررة تقرأ النصوص وتقرر مصيرها، بل كانت معلمة وداعمة، تتابع تطور أدوات الكتابة لدى من حولها بحرص قلّ نظيره، فكانت صوتًا مشجعًا لكل قلم جديد يبحث عن هويته.
في عالم الصحافة، حيث الإيقاع السريع والتوتر الدائم، كانت مريم تجد في القهوة والسيجارة رفيقين دائمين، كأنهما طقسان مقدسان يرافقان لحظاتها في التحرير، يمنحانها التركيز والقدرة على الغوص في العبارات وتحليلها بعمق. كانت تعرف كيف تصنع من الكلمات جسورًا تصل بها إلى القارئ، وكيف تبني من الحروف نوافذ تطل منها على الحياة بزاوية مختلفة.
اليوم، وقد أخذتها الأقدار إلى بلاد الغربة، ربما تفتقد صخب المطبعة ورائحة الحبر الممتزجة بدخان سجائرها، لكنها بلا شك ما زالت تحمل في قلبها حبها للصحافة، وما زالت القهوة تلازمها، شاهدة على رحلة طويلة من الشغف والالتزام. في الغربة، حيث لكل مدينة رائحتها الخاصة وإيقاعها المختلف، ربما لم تعد مريم السناطي تسمع صخب الجريدة في الصباح، ولا تشعر بحرارة الورق الخارج للتو من المطبعة، لكن روحها الصحفية لم تخفت.
لا تزال ترى العالم بعدسة الكاتب، تتفحص الأخبار بنظرة الناقد، وتبحث بين السطور عن الحكايات المخفية التي تستحق أن تُروى. تلك الطاولة الصغيرة التي كانت تضم قهوتها وسجائرها في مكاتب جريدة الجمهورية ربما تحولت الآن إلى زاوية في مقهى بعيد، أو مكتب منزلي في بلاد الغربة، لكن الطقوس لم تتغير: القهوة لا تزال حاضرة، والدخان يتصاعد بهدوء، وكلماتها تظل تحفر أثرها العميق حيثما وُجدت.
الغربة لم تكن يومًا حاجزًا أمام من يملكون الشغف، بل ربما كانت دافعًا آخر لإعادة اكتشاف الذات. ومريم، بروحها التي لا تهدأ، ربما لم تعد تكتب في الصفحة الأخيرة لجريدة ورقية، لكنها بلا شك لا تزال تخط سطورها في وجدان كل من عرفها، وفي ذاكرة الصحافة العراقية التي لا تنسى أبناءها الأوفياء.
مريم السناطي لم تتوقف عن العطاء حتى في الغربة. فالصحفية التي كانت تملأ المساحات بالكلمات في صفحات الجريدة، استمرت في صياغة أفكارها وتوجيه رسائلها، رغم التحديات التي فرضتها عليها المسافات والظروف. ربما اختلفت الأدوات التي تستخدمها الآن، من شاشة كمبيوتر إلى تطبيقات ووسائل التواصل الحديثة، ولكن أسلوبها وهدفها ظل كما هو: السعي لخلق قيمة معرفية، والتأثير في الآخرين من خلال كلمة صادقة ومؤثرة.

الغربة، على الرغم من ألمها، منحتها عمقًا جديدًا في الرؤية، جعلها تلمس تفاصيل الحياة اليومية بشكل أكثر تأملًا، وتطرح أسئلة أوسع عن الهوية والانتماء والتغيير. كانت قادرة على أن تحمل معها تلك الدروس التي اكتسبتها من وطنها إلى كل مكان تنقله.
مريم السناطي التي طالما كانت صوتًا رصينًا في الصحافة العراقية، وأيقونة للمرأة القوية الطَّموح، أصبحت اليوم مرجعية حية لتطور الصحافة في زمن الانفتاح الرقمي. إن فقدانها للمكان التقليدي لم يقيدها؛ بل أصبح هذا الفقدان محركًا جديدًا لخلق مساحات جديدة في عالم الكتابة، حيث الكلمات تتجاوز الحدود، وتتحدى الزمان والمكان.ربما هي الآن لا تكتب بيدها في جريدة، لكن في عقلها وقلبها، ما زالت تكتب كل يوم قصة جديدة، لا تنتهي.
مريم السناطي، رغم غربة المكان، ظلت متصلة بروح الصحافة التي احتفظت بها كجزء من هويتها. الكلمات التي كانت تعيش بها في الزمان والمكان العراقي، تحولت اليوم إلى لغة جديدة تتنقل عبر الشبكة العنكبوتية، تصل إلى من يهمه الأمر في أي بقعة من الأرض. وإن كانت قد ابتعدت عن الحبر والورق، فإن قلمها لا يزال يمتلك القدرة على أن يلتقط الأنفاس، ويعبر عن كل ما لم يُقل.
في الغربة، كأنها تعيش في حالة من “المنازل المتعددة”، حيث تستطيع أن تلمس التاريخ بيدها وتقرأ الحاضر بعين ناقدة، مستحضرة تجاربها اليومية في الصحافة، وتحوّل هذه الخبرات إلى دروس تصلح لواقع متغير. مريم، مثلها مثل الصحفيين الذين عاصروا تحولات كبرى في العراق، تدرك أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي أداة لتغيير الواقع، ولو بكلمة واحدة قد تحرك السكون أو تفتح أفقًا جديدًا.
ومع مرور الأيام، أصبحت تلك الطقوس التي ترافقها منذ سنوات—القهوة، السيجارة، والكتابة—رموزًا لصمودها في وجه التحولات الكبيرة. هي تعلم أن الحياة في الغربة تحتاج إلى صبر، لكن الصحافة، بالنسبة لها، كانت دومًا بمثابة فسحة للتعبير عن الألم والحلم على حد سواء.
