مدير شرطة أسبق يعلّق على تصريحٍ لوزير أمرَ صدام حسين باعتقاله سنة 1993 !



اتّصل بي بعضُ الأصدقاء بعد أنْ شاهدوا اللقاء الذي أجراه المذيع طاهر بن بركة، ضمن برنامج الذاكرة السياسية من قناة العربية مع وزير الزراعة العراقي الأسبق كريم حسن رضا، وإشارته ضمن الحوار الى اسمي وواقعة تنفيذ أمر القبض بحقّه عام 1993.
ففي أحد الأيام، وكان يوم جمعة من أواخر عام 1993 وكنت أشغل موقع مدير شرطة محافظة بغداد / الرصافة، أبلغني مدير الشرطة العام اللواء الركن محمود شكر شاهين بالتحرك شخصياً نحو مجمع القادسية لسكن الوزراء في حي القادسية للقبض على وزير الزراعة كريم حسن رضا واعتقاله وإيداعه موقف آمرية الموقف والتسفيرات بالرصافة لحين تسلُّمهِ من قبل اللجنة التحقيقية الخاصة بالأمن الخاص، ولم يكن عندي أيُّ خبرٍ أو تفاصيل عن قضيته وكل ما أعرف من وسائل الإعلام أنَّه صدر مرسومٌ بعزله من منصبه قبل يوم واحد. وقد استفسرت من المدير العام عن أسباب تكليفي أنا شخصياً بالتنفيذ، رغم أن مكان إقامة المطلوب (المسكن يقع ضمن مسؤولية جانب الكرخ وليس الرصافة)، فأكَّد لي أنه اختارني شخصياً لتنفيذ المهمة.

تحرَّكت بسيارتي الحكومية مع سائقي الى دار الوزير المقال في مجمع القادسية، وأرشدني حرس المجمع الى موقع دار الوزير، طرقت الباب وخرج لي الوزير شخصياً وما ان شاهدني بملبسي العسكري حتى بادرني بالقول (أنا رهن الإشارة )!! وكأنه كان يتوقع الأمر، حيث لم يتفاجأ به، ويعلم أنه صادر من رئيس الجمهورية. وطلب مني الدخول الى غرفة الاستقبال وطلب إمهاله لغرض تغيير ملابسه والتهيؤ للخروج، كما استأذن بأخذ أدوية أمراضه المزمنة*. ولم أستخدم الجامعة الحديدية (الكلبجة) معه!..أركبته معي بسيارتي، ونقلته الى آمرية الموقف والتسفيرات بالرصافة التابعة لإدارتي. وطلبت تفريغ وتهيئة غرفة ضمن الأمرية ليودع فيها الوزير المعتقل، ولحين إكمال تنظيف وتهيئة غرفة الحجز له، *وقد اصطحبته لمكتبي لحين اكتمال تهيئة الغرفة ونقلته اليها وتركته لليوم التالي حيث حضرت مفرزة من اللجنة التحقيقية بالأمن الخاص واصطحبوه معهم وعلمت فيما بعد بصدور الحكم عليه بالحبس.
وقد لفت انتباهي وانتباه الكثيرين من المتابعين ان الوزير السابق خلال لقائهِ بالبرنامج ما زال يتذكر الموقف، حيث أشاد بتعاملي معه واحترامي له، وعدم تقييده بالكلبجات كما يجب عند القبض على المطلوبين، وعدم ايداعه مع المجرمين العاديين وإنما خصصنا له موقعاً في مكتب أحد ضباط التسفيرات بالرصافة لحين قدوم مفرزة من الأمن الخاص لتسلّمهِ في اليوم التالي.

الواقع، لم تكن هناك توصيات محدّدة بشأن التعامل معه، لكني احترمته لكبر سنه ولموقعه، ولكوننا جهة إيداع وليس جهة التحقيق معه. وكان الأمر الصادر يقضي بالاحتفاظ به لحين قدوم مفرزة من الأمن الخاص لتسلّمهِ.
والصراحة انني كنت أتوقع الاحراج والجزاء الذي سيلاقيني من جراء التعامل المتساهل معه، رغم أنّ أمر اعتقاله صادر من أعلى سلطة في البلاد، فلا يمكن أنْ اتخلى عن إنسانيتي وأخلاقي في تنفيذ أمرٍ من الدولة، بالأسلوب الإنساني خاصة وان الوزير قد استجاب للأمر دون اعتراض وكان يتوقعه وحمدت الله كثيرا أنّ الفعل الإنساني ما زال محفوظا في ذاكرة الوزير المعتقل منذ عام 1993 حتى عام 2024، وهو بالتأكيد محفوظ عند الله تعالى.
وفي الختام اتقدم بجزيل الشكر والتقدير للاستاذ كريم حسن رضا على تذكيره وتذكره بالحدث وقضية تنفيذي لامر القبض عليه ورعايته من قبلي احتراما لعمره ومنصبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كنتُ كتبتُ -عبر الواتصب- للصديق العزيز الدكتور أكرم عبد الرزاق المشهداني، معلقاً على ما سمعته من الوزير، وما قرأتُه له: (شهادةٌ من “كريمٍ” أصيل لم ينسَ الموقفَ الأخلاقيَّ الرصينَ لـ”أكرم” الذي عرفناهُ شهماً، وذا خلق مؤثّل مجيد تنطبق عليه تماماً آية “سيماهم في وجوههم”. أسأله تعالى أن يكثّر من أمثالكم، فما أحوج البلد والناس اليكم).
واقع الحال، أنّ تلك العقود التي عشناها بين سنة 1968 وسنة 1998، السنة التي غادرتُ في أواخرها العراق الحبيب، مهاجراً، تزخُرُ بالشخصيات الفريدة في جمال سلوكها، ونزاهتها، ومحاسنِ أخلاقها، وإخلاصها الوطني النادر..لعلّي أنا شخصياً -وبحكم عملي الصحافي- أفقهُ كُنهَ العشرات من هؤلاء الذوات الكبار بسؤددهم، وجميل سلوكهم، وفضيل مواقفهم في “لحظات حرْجةٍ”، أو قد تكون مَسْرَباً لشرٍّ مستطير!.
ومن هؤلاء النادرين، المحبوبين، المكتنزين أخلاقاً، ومودّةً للناس، وللبلد، ولتاريخ “النزاهة الحكومية” في العراق، الدكتور اللواء الحقوقي “أبو إيمان”، الأستاذ أكرم عبد الرزاق المشهداني، البغدادي، الكرخي الأصيل.
وحين أستذكرُ بعض سيرة العشراتِ الأفذاذ ممّن أشرتُ إليهم، وأقارنهم، بمن عَرفتهم من “حُكامِ الخُرده فروش”، أردّدُ مع نفسي ما كان يقوله الجواهري رحمه الله:
حتّى التماثيلُ تُستَوحى بها مُثُلٌ
خيرٌ مِنَ البشرِ الخالينَ من مُثُلِ
سلامٌ على المخلصين، الطيّبين، النجباء، الرحماء، النزهاء، الذين ضربوا المثلَ بصدقِهم ، ومثُلِهم، وكبرياءِ نفوسِهم، التي عشقت الحق، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. صباح اللامي