تحقيق

محمد مهدي الجواهري صحفياً

      اكتنف الحياة الصحفية للشاعر محمد مهدي الجواهري بعض الغموض أو قِلّة المعلومات، وكانت له حياة صحفية طويلة  ومتصلة طيلة سنوات العهدين الملكي والجمهوري، فهذه إذاً قصة من تاريخ الصحافة  يجب أن تروى.

       ولد محمد مهدي في  26 تموز عام 1899 بمدينة النجف ولبس العمامة منذ طفولته بتأثير من والده الذي حرص على تعليمه .

ولست هنا بصدد الحديث عن نسب الجواهري وأصوله، أو زعامته للشعر العربي بل ستكون هذه الملاحظات محددة بمدى علاقة الجواهري بالصحافة التي بدأت في مايس عام 1930 عندما أصدر جريدة الفرات وأيَّد فيها المعاهدة العراقية البريطانية في وقت أجمع فيه الشعب العراقي وصحفه على رفض تلك المعاهدة واعتبروها نقطة سوداء في تاريخ العراق، ولم يتوفر الدليل على ما أورده فائق بطي في الصفحة رقم 113 من الموسوعة الصحفية من أن محمد مهدي  الجواهري قد خصص جريدته ( لمحاربة صحف المرتزقة السائرة في ركاب الحكام).

      وبعد ركود لبضع سنوات ، سنحت الفرصة للجواهري بالعودة إلى الصحافة مبتهجاً بالانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي ضد حكومة ياسين الهاشمي فأصدر في 25 تشرين الثاني 1936 جريدة أسماها الانقلاب تيمنًا بالانقلاب العسكري.

    وحصر مقالاته على تأييد كل إجراءات حكومة الانقلاب التي ترأسها حكمت سليمان، بل راح يشارك في مظاهرات التأييد التي نظمها خصوم الهاشمي من أنصار جماعة الأهالي والشيوعيين فألقى خطبة في اليوم الأول.

      واستمر الجواهري على موقفه الصحفي حتى فوجئ في 11 آب 1937 باغتيال زعيم الانقلاب الفريق بكر صدقي، فسارع إلى تغيير اسم  جريدته الى ( الرأي العام).

     ولم يتسنَّ لي أن أتعرف على موقف الجواهري تجاه انتفاضة مايس عام 1941 وكانت جريدته متوقفة منذ بعض الوقت ، لكني أفترض أن رأيه كان سلبياً استناداً لموقفه المناهض لحكومة ياسين الهاشمي والمؤيد للانقلاب العسكري بقيادة الفريق بكر صدقي عام  1936.

     وعندما لجأت الحكومة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية وبنصيحة بريطانية إلى فتح الباب أمام الأحزاب السياسية ، وكان منها حزب الاتحاد الوطني حينما شكّل عبد الفتاح ابراهيم في نيسان عام 1946 حزب الاتحاد الوطني فأصدر جريدته السياسة وفي الوقت نفسه أعاد عضو الهيئة المؤسسة محمد مهدي الجواهري إصدار جريدته المتوقفة الرأي العام.

     ولما عطلت حكومة أرشد العمري في شهري آب وأيلول 1946 صحف الأحزاب وغيرها وكان الجواهري يصدر جريدة اسمها صدى الدستور بديلاً عن الرأي العام المعطلة، وألحقتها بسابقتها.

وتكرر الحال مع حكومة صالح جبر التالية فعطلت الرأي العام مرة أخرى ولم تكن فترة التعطيل السابق قد انتهت !

      وفي خضم العداء العراقي التقليدي للسياسة البريطانية، وقبل ذلك بقليل حاولت السفارة البريطانية في بغداد تحسين صورتها من خلال عدد من الصحفيين لعل ذلك يخفف من ذلك العداء.

      وجهت السفارة الدعوة الرسمية لخمسة من أصحاب الصحف لزيارة  لندن والاطلاع على مجريات صناعة القرار وجلسات مجلس العموم ومعالم العاصمة والمدن الأخرى وقد تمت الزيارة في صيف 1947.

    وشملت هذه الدعوة كلا من جبران ملكون صاحب الأخبار ومحمود عبد الكريم صاحب الديار وصدر الدين شرف الدين صاحب الساعة ومحمد مهدي الجواهري صاحب الرأي العام وجعفر الخليلي صاحب الهاتف النجفية.

     وكان صادق الأزدي قد أكد لي هذه التفاصيل كما أن الضابط السياسي البريطاني السابق لونگريك قد تحدث عنها في كتابه العراق 1900- 1950.

     وسياسياً، شارك الجواهري شخصياً في مظاهرات وثبة كانون 1948 وعندما فقد شقيقه برصاص الشرطة  ألقى قصيدته المعروفة في التاريخ ( أخي جعفر).

     وفي أوائل عقد الخمسينيات نشط الشاعران محمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم في حركة أنصار السلام فتعرضا للاعتقال لفترة قصيرة ، ثم عطلت حكومة نوري السعيد 13 جريدة ومجلة فاضطر الجواهري إلى الهجرة المؤقتة في مصر، ولما عاد أصدر جريدة الجديد ووزع عددها الأول في 24 مايس 1953، ثم أوقفها عندما تمكن من إعادة إصدار الرأي العام.

     وعندما شكل الدكتور فاضل الجمالي حكومته الاولى في 17 أيلول .1953 استوزر فيها الصحفي رفائيل بطي وزيراً للدولة وأوكل إليه إدارة شؤون الدعاية.

     وقبل أن نواصل الحديث ، لابد من أن نؤكد بأن تعيين بطي وزيراً لا يعني إطلاقاً أنّ ذلك يعني انشاء وزارة للإعلام في العراق، بل إنّ أول وزارة للإعلام باسم وزارة الإرشاد والتوجيه، تأسست في وزارة نوري السعيد الرابعة عشرة والأخيرة حينما أسندها في 17 نيسان عام 1958 إلى برهان الدين باش أعيان. 

     وكانت ردة فعل أصحاب الصحف سلبية تجاه توزير رفائيل بطي ربما بسبب عداء قديم أو الغيرة فهاجموه على صفحات صحفهم. ففي الأسابيع الأولى لاستيزار بطي شَّنّت بعض الصحف حملة اتهامات بحجب الإعلانات الحكومية عن بعض الصحف.

     وقال محمد مهدي الجواهري في جريدته الرأي العام يوم 10 تشرين الثاني 1953 إن بطي يتصرف بشكل كيفي في توزيع الإعلانات الحكومية ويحجبها عن الصحف التي لا تروق لمزاجه الشخصي.

     وفي اليوم التالي 11 تشرين الثاني اتهم صادق البصام في جريدته الحياد رفائيل بطي باستغلال منصبه الوزاري استغلالاً خطراً وأنه يستعمل الإذاعة للدعاية ويتصرف بأموال الدعاية وأعلاناتها في كيل 

الطعون الجارحة لشاجبي سلوكه الوزاري.

     ولأن الود مفقود بين بطي وكامل الجادرجي منذ منتصف عقد الثلاثينات فقد شن الجادرجي في جريدة صوت الأهالي حملة نقد تواصلت عدة أيام في كانون الثاني 1954 قال فيها إنَّ بطي هو عدو حرية الصحافة وقد حوّل وزارته إلى دائرة بوليسية وزاد الدعاية والإذاعة سوءاً على سوء وأقام خفارة دائمة في مديرية شرطة العاصمة لخنق الصحف الحرة .

      لكن تولّي نوري السعيد للحكومة بعد استقالة حكومة الدكتور فاضل الجمالي ،لم تترك أمام الجميع فرصة العمل فألغى الأحزاب والصحف وأسقط الجنسية عن الجواهري وعزيز شريف وعدنان الراوي وتوفيق منير وصفاء الحافظ وآخرين وكان جميعهم خارج العراق ولم يعودوا إلا بعد قيام النظام الجمهوري في 14 تموز عام 1958.

     الجواهري في العهد الجمهوري 

    ولما استقرت الأمور للنظام الجمهوري بعد 14 تموز عام 1958 أعاد محمد مهدي الجواهري إصدار جريدته الرأي العام وانهمك مع صحفيين آخرين في مساع لتأسيس نقابة للصحفيين.

     لذلك التقى 45 صحفياً في نادي المحامين بالعيواضية في آذار عام 1959 في خضم هستيريا هيمنة أنصار الحزب الشيوعي على المشهد السياسي والحياة العامة في العراق.

   ووافق المجتمعون على تشكيل هيئة تأسيسية للنقابة ضمت  11 صحفيا للشروع بتأسيس النقابة والطلب من الحكومة إصدار قانونها ، وكان الهيئة تضم:

محمد مهدي الجواهري صاحب جريدة الرأي العام 

يوسف إسماعيل البستاني ممثلاً عن جريدة اتحاد الشعب

عبدالله عباس صاحب جريدة الأهالي 

عبد المجيد الونداوي رئيس تحرير جريدة الأهالي 

صالح سليمان ممثلاً عن جريدة صوت الأحرار

فائق بطي أحد أصحاب جريدة البلاد 

موسى جعفر أسد ممثلاً عن جريدة الثورة

حمزة عبد الله منثلاً عن جريدة خه بات الكردية 

صالح الحيدري ممثلاً عن جريدة خه بات 

حميد رشيد صحفي 

عبد الكريم الصفار صحفي

    ونتيجة للظروف السياسية التي كانت سائدة آنذاك، آذار 1959 وعقب أحداث الموصل الدامية فقد سيطر الشيوعيون وأنصارهم سيطرة تامة على كل نشاط الهيئة التأسيسية التي انهمكت في الأمور السياسية بدلاً من الأمور النقابية وراحت تطالب بإعدام الخونة، بل كان الجواهري ينظم القصائد لحث قاسم على تنفيذ الإعدام بالمناهضين له ومنها القصيدة التالية:

فضيِّق الحبلَ واشدُدْ من خِناقِهِمُ

فربّما كان في إرخائهِ ضررُ

ولا تقلْ تِرةٌ تبقى حزازتُها

فهم على أيِّ حالٍ كنتَ قد وُتروا

تصوَّر الأمرَ معكوساً وخذ مثلاً

مما يجرُّونه لو أنَّهم نُصروا

 واللهِ لاقتيدَ زيدٌ باسمِ زائدةٍ

 ولاصطلى عامرٌ والمبتغى عمرُ

ولانمحى كل رسمٍ من معالمِكمْ

 ولاشتفت بكمُ الأمثالُ والسيرُ

     وطالبت الهيئة التأسيسية كذلك رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم بتكميم أفواه الصحف المعادية للجمهورية وتعني الصحف القومية.

وواصلت الهيئة التأسيسية نشاطها السياسي حتى أوائل شهر مايس 1959 عندما قابل الجواهري وعدد من أعضاء الهيئة رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع وسلموه مذكرة تطلب إجازة النقابة.

     وقال صالح سليمان لي أنه كان أحد الذين شاركوا في الاجتماع الذي استمر من الساعة العاشرة مساء حتى الخامسة فجر اليوم التالي ولم يكن الحديث مقتصراً على أمور النقابة بل انتقل إلى احتياجات أصحاب الصحف مثل توفير الورق ( وطلب صاحب جريدة إيقاف فتح شارع لأنه سيؤدي الى هدم جزء من مطبعته! وثالث التمس العفو عن سجين محكوم بتهمة التهريب)!

وعندما وصل قاسم إلى صالح سليمان وسأله عن طلباته ( لم أجد شيئاً في مثل هذه الساعة المبكرة من الفجر ، سوى أن أجد وسيلة توصلني الى بيتي ، فأمر الزعيم بإيصالي بسيارة جيب عسكرية إلى بيتي في الكرادة الشرقية).

       وقد وافق قاسم على تأسيس نقابة الصحفيين ومنحها منحة مالية بعشرة آلاف لصرفها على تهيئة مكاتبها ببغداد وواصل الجواهري اتصالاته مع الدوائر الحكومية حتى نشرت جريدة الوقائع العراقية في 23 حزيران 1959 القانون رقم 98 لتأسيس نقابة الصحفيين ووقعه رئيس وأعضاء مجلس السيادة ورئيس واعضاء مجلس الوزراء.

     وتضمن القانون 31 مادة خولت الثامنة والعشرون منها صلاحيات اللجنة التأسيسية للهيئة الإدارية حتى يعقد المؤتمر العام الأول.

وشهدت آخر شهور عام 1959 بداية الخلاف بين رئيس الحكومة عبد الكريم  قاسم وبين الحزب الشيوعي، الذي يهيمن أنصاره على النقابة ، ونتيجة لذلك هاجمت الصحف المناهضة لهم، اللجنة التأسيسية وأسلوبها في قبول الأعضاء الجدد في النقابة، وازدادت الحملة حدة قبل أيام معدودة من عقد المؤتمر الأول في 6 أيلول سبتمبر 1959.

       وبقيت الحالة السياسية مضطربة في العراق طيلة سنة كاملة وتبادلت الصحف الاتهامات والشتائم والتخوين ، حتى المؤتمر الثاني الذي عقد في 7 نيسان 1960 حين داهمهم رئيس الحكومة بخطاب غاضب جداً استمر ثمانية دقائق فقط ونقلته إذاعة بغداد على الهواء.

وبعد أن رحب رئيس الحكومة بالضيوف الأجانب ، صرخ في قاعة المؤتمر :

     ( إنني لم أحضر هذا اليوم لأفتتح هذا المؤتمر ، مؤتمر الصحافة العراقية، إن الصحافة العراقية قد دفنت في الحضيض ولقد فشلت خلال السنة المنصرمة فشلاً ذريعاً . أما أرباب الصحف والمراسلين ومن يشتغل بمعيتهم فليتواروا خجلاً أمام الشعب ، إنهم فرقوا صفوف الشعب).

     وعلى هذا المنوال كان الخطاب مليئاً بالاتهامات بشق صفوف الشعب وتخريب الجبهة الداخلية. ولم يجد الجواهري نقيب الصحفيين ما يقوله سوى الاعتذار وقال في خطاب بعد خطاب رئيس الحكومة إنه مزق أوراق خطابه الخمسة، بعد أن أدرك غضب رئيس الوزراء، لأنه لم يستطع قراءَتها بحضوره، ثم استجار برئيس الوزراء طلبا لمساعدة الصحفيين لكنَّ الجواهري لم ينجُ فيما بعد من تعسف سلطات قاسم  العسكرية.

      وبقيت علاقة الجواهري جيدة مع رئيس الحكومة لكنه تذمّر من  حجب الإعلانات الحكومية وضايقته السلطات العسكرية بتهمة نشر أخبار كاذبة.

     ولم يكن الحاكم العسكري العام يستطيع التصرف دون إذن القائد العام للقوات المسلحة رئيس الحكومة الذي واصل مدح الجواهري علناً حتى فاجأ قراء جريدته بتوقفها عن الصدور.

      وقد نشرت كل صحف اليوم التالي 8 نيسان 1960 نص الخطاب ، وللتوثيق فإن النص منشور في كتيب ( مبادئ ثورة 14 تموز في خطب ابن الشعب البار الزعيم الأمين عبد الكريم قاسم) مطبعة الحكومة ، بغداد 1961 الصفحات 149 – 151.

      وربما كان عبد الكريم قاسم يتأبط شراً حين واصل مدح الجواهري في الوقت الذي كانت السلطات العسكرية تضايقه، فلماذا أوقف الجواهري إصدار جريدته مع أنّ علاقته بقاسم لم تكن قد ساءت بعد؟ وكان رئيس الحكومة يثني باستمرار على الجواهري حتى أنه أعلن في حفل لنقابة الصحفيين في 31 تموز 1960 أنه ( انتدب النقيب) لعمل آخر وأنه ( يقدر ويثمن) الجواهري ، بل قام عبد الكريم قاسم بزيارة الجواهري في منزلة عندما كان قد تعرض لوعكة صحية ، وكان هو بدوره يتردد على مكتب قاسم في مكتبه بوزارة الدفاع دون متاعب ليعرض عليه طلبات النقابة.

     وأفترض أن الجواهري أوقف إصدار جريدته طوعاً وليس احتجاجاً على تعسف الحكومة ضد الصحافة، بل إنه أوقفها تمهيداً لتولّيه منصب حكومي كما وعده قاسم لأن القانون يمنع الموظف من العمل في الصحافة تماماً كما حصل مع العقيد الركن عبد السلام عارف نائب القائد العام للقوات المسلحة وزير الداخلية عندما سحب اسمه من ترويسة جريدة الجمهورية في الأيام الأولى لقيام النظام الجمهوري عام 1958.

     وواصل عبد الكريم قاسم لعبة التضليل فأكد في 15 تشرين الأول عام 1960 أي بعد شهر من إيقاف الجواهري لجريدته الرأي العام بأنه ( سيعلن في الوقت المناسب) نوع الوظيفة التي سيسندها للجواهري.

    ولم يتقلد الجواهري أي منصب حكومي، بل ضايقته السلطات العسكرية فاعتقلته في 29 آذار 1961 بأمر من الحاكم العسكري العام الزعيم أحمد صالح العبدي مع أنه كان ما يزال نقيباً للصحفيين ، مع الإشارة إلى أن العبدي لم يكن ليصدر هذا القرار دون عرضه على  مراجعه العسكرية وهو قاسم نفسه.

     ومزيدا من إهانة نقيب الصحفيين والشاعر المعروف، اقتادت قوة عسكرية الجواهري مخفوراً إلى وزارة الدفاع واحتجزته بعض الوقت وأطلقت سراحه بكفالة بمبلغ تافه قدره خمسون فلساً! وسمحت للصحف الموالية بنشر هذه التفاصيل .

      عند ذلك أيقن محمد مهدي الجواهري أن حريته أصبحت في خطر فرتّب السفر لحضور مهرجان شعر في بيروت فسافر ولم يعد بل واصل سفرته الى العاصمة الجيكوسلوفاكية براغ وبقي فيها حتى سقوط نظام عبد الكريم قاسم وبدأ في نشاط سياسي.

     وتُتَدَاول في إحدى الصفحات الإلكترونية رسالة منسوبة للشاعر محمد مهدي الجواهري بتاريخ  الأول من حزيران عام 1960 موجهة للسلطات الجيكوسلوفاكية يطلب فيها اللجوء السياسي.

     البعثيون والجواهري أول مرة 

    يدّعي عزيز الحاج في كتابه ( مع الأعوام) الذي أصدره بعد عدة سنوات من أحداث 8 شباط عام 1963 أن رد فعل الجواهري الأولي على أخبار الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم كان الفرح لكنه توقف بعد أن أكتشف أنّ البعث هو من تولى السلطة .

     حينها كان كلٌّ من الجواهري والحاج يقيمان في براغ، فانصرف الجواهري لرئاسة لجنة شكلها الشيوعيون في الخارج ضد النظام الجديد ووضعت السلطات البلغارية في صوفيا محطة إذاعة يشرف الحاج عليها للبث باللغة العربية ضد البعثيين.

      وفي بغداد لجأت السلطات البعثية الجديدة الى إجراءات تعسفية ضد الصحفيين  فحجزت أموال 18 صحفياً  ومنهم محمد مهدي الجواهري .

      ولم تستقر الأمور للنظام البعثي ودب الخلاف بين أركانه فتم في 12 مايس إبعاد علي صالح السعدي عن وزارة الداخلية الى وزارة الإرشاد واستقدم حازم جواد من منصبه وزيراً للدولة ليصبح وزيراً للداخلية وفي وقت لاحق راجت في دوائر وزارة الداخلية معاملة رسمية لإسقاط الجنسية العراقية عن 12 عراقياً يعيشون خارج العراق بعضهم قادة شيوعيون ومثقفون وشعراء ، ووقعها أحد المسؤولين في الوزارة لكنها تحمل هامشاً يحيلها المسؤول الى الوزير ، وبالتأكيد اطلع حازم عليها ، وقرأها ولذلك أخذت طريقها للتنفيذ.

     ونُشرتْ صورة هذا الكتاب في صفحات التواصل الاجتماعي وكان عباس عبود أول من نشرها، وقد أذن لي باستخدامها. وفي متابعة لمصير قرار وزير الداخلية حازم جواد وجدت أنه قد تم تنفيذه فعلاً وأسقطت الجنسية العراقية عن المشمولين بالكتاب، السري رقم ق.س / 12660 بتاريخ 26-10-1963، وهم:

      محمد مهدي الجواهري وفيصل السامر ونزيهة الدليمي وصلاح خالص والزعيم المتقاعد هاشم عبد الجبار ونوري عبد الرزاق حسين وعبد الوهاب البياتي وذو النون أيوب وغائب طعمة فرمان ومحمود صبري ورحيم عجينة وعزيز الحاج.

     وليس واضحاً احتمال أنْ تكون حكومة الرئيس عبد الرحمن محمد عارف قد أرادت رصَّ الصفوف الداخلية خلال حرب حزيران عام 1967 قد أعادت الجنسية لبعض المشمولين بذلك القرار .

           الجواهري والبعث ثاني مرة 

     ويوضح الدليل الذي نشره عبد المنعم الجادر في مجلته الأسبوعية (كل شيء) قرار مجلس الوزراء في 25 آب 1968 وبعد بضعة أسابيع من تولي البعث للسلطة مرة ثانية، بإعادة الجنسية للجواهري.

     وفي هذه الفترة أصدر مجلس قيادة الثورة قرارين بصرف راتب تقاعدي مقطوع مدى الحياة للشاعر محمد مهدي الجواهري ، وراتب تقاعدي لورثة الشاعر بدر شاكر السياب.

      وليس مبالغة القول إنّ علاقة البعثيين بالحواهري قد شهدت بعد تموز عام 1968 ما يجوز تسميته ( شهر العسل)، وكانت القيادة العراقية على أعلى المستويات تحتفي  وتلتقي بالجواهري في احتفالات عامة وفي مكاتبها وفي منازلها.

       فقد أقامت وزارة الإعلام في صيف 1970 حفلاً كبيراً في استراحة صدر القناة حضره حشد كبير من المثقفين والكتاب والصحفيين والمسؤولين  يتقدمهم الوزير صلاح عمر العلي ووزير الداخلية صالح مهدي عماش .

    بل احتفى الوزير العلي بمنزله في شارع 14 رمضان ببغداد بالجواهري وبحضور أعضاء من القيادة القطرية ومنهم عماش وعبد الكريم الشيخلي الشيخلي.

    وكنا في وكالة الأنباء العراقية بعمارة الرواف في شارع أبي نؤاس نشاهد مساء بعض الأيام الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين وهما يمارسان رياضة المشي وأحياناً يكون الشاعر الجواهري معهما وهو يدخن.

     وربما أن الجواهري لم يرضَ على مطاردة الشيوعيين بعد تفكك الجبهة الوطنية عام 1978 وتوجس شراً فغادر ، ولكن هذا ليس أكيداً بل تخمين، لكن نشاطاته تشير إلى أنه كان في عام 1980 ما يزال موجوداً في بغداد ويسافر ثم يعود إليها .

     وسافر الجواهري من بغداد وعاد إليها إلى المغرب والجزائر وقطر  ومصر ولبنان وجيكوسوفاكيا واليونان وغالباً لحضور مؤتمر ثقافي أو لاتحاد الأدباء لكن آثاره اختفت عندي عندما سافر في وقت ما إلى دمشق وقيل إنّ حافظ الأسد وسلطات حكومته تمكّنا من زرع الخوف في نفسه من العودة إلى العراق.

    واشتهرت للجواهري صور وشريط فيديو وهو يرافق صدام حسين هام 1977 وهما يتحدثان بود ويدخنان ثم يقومان في جولة في مزرعة بيوت زجاجية في الراشدية تملكها شركة أرض الرافدين لصاحبيها محسن الشيخ راضي، وصالح المطلك وكلاهما خريج كلية الزراعة.

ومن المؤكد أنه كان يغتنم فرصة سفره من دمشق الى عاصمة عربية اخرى ليتصل بسفير العراق في تلك العاصمة ليطلب السماح له بالعودة إلى بغداد.

      ومن الشائع أن الجواهري خلال وجوده في دمشق في سنوات الحرب العراقية الايرانية قد قام بزيارة لطهران وإلتقى خامنئي دون أن تتضح أسباب تلك الزيارة ، فهل كانت بدعوة إيرانية أم أن حافظ الأسد رتبها له..

     ومما أنا متأكد منه أن الجواهري اغتنم فرصة سفرة له الى القاهرة والتقى فيها بسفير العراق في مصر نبيل التكريتي وسلمه رسالة الى القيادة العراقية طالباً العودة.

    ويبدو أنّ العراق رحب به وأجرى الترتيبات اللازمة لتحقيق رغبته.

ولذلك جرى اختيار مناسبة عقد مؤتمر الإتحاد العام للأدباء العرب في العاصمة الأردنية عمان في عام 1992 لكي يعود منها برفقة أدباء عراقيين يحضرون المؤتمر أيضاً .

     ويلاحظ القارئ الصورة المرفقة وهي في مكتب سفير العراق في عمان  وتضم الجواهري والسفير نوري إسماعيل الويس والشاعر حميد سعيد رئيس أتحاد أدباء العراق وفرات الجواهري نجل الشاعر الجواهري. 

وكان يفترض أن يرافق الوفد العراقي الجواهري من عمان إلى بغداد لكن جهة ما اعترضت على ذلك قيل إنها أجهزة النظام السوري وأفراد من عائلته، وأحبطوا رغبته.

    وروج بعض الشيوعيين قصيدة هجاء مفبركة ضد صدام ونسبوها إلى الجواهري أو أن صدام حاول رشوته بقطعة أرض ، وقد نفى المتابعون للجواهري وأقاربه وفي مقدمتهم مركز الجواهري في براغ  وشبكة الجواهري هذه المزاعم ، ولما فوجئوا بالتكذيب وعدم وجود مثل هذه القصيدة في مجموعاته، زعموا أنه مزقها بعد إلقائها !!

     على أية حال شهدت سنوات ما بعد عام 1992 حملة محمومة ضد النظام العراقي وراحت عدة حركات معارضة تجمع صفوفها في عقد مؤتمرات في هذه المدينة أو تلك بتمويل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

      ولم يحضر الجواهري اي مؤتمر من مؤتمرات المعارضة في الخارج سوى مؤتمر بيروت دون أنْ يلقي كلمة او يتكلم خلال المؤتمر وكان حضوره مشروطاً بأنْ يدخل سوية مع صلاح عمر العلي ويخرج معه دون إلقاء كلمة ، ولما خرجا من قاعة المؤتمر قال الجواهري للعلي (هذولة كلهم خونة ، عملاء امريكا).

    وختاماً أود أن أعتذر إن فاتني نشاط صحفي أو غير ذلك للشاعر محمد مهدي الجواهري.

مقالات ذات صلة