تحقيق

  مجلة “المجلة”، وموقفها من انتفاضة مايس 1941

أحدثت انتفاضة العراق في مايس 1941 ضد النفوذ البريطاني عاصفة من التأييد الشعبي ومن جميع  الصحف العراقية التي كانت موجودة آنذاك ، وانتقل هذا التأييد حتى إلى المجلات غير السياسية والدوريات الأدبية.

نجد مثلاً أن مجلة شهرية اسمها  “الطيارة” تصدرها جمعية الطيران العراقية ولا علاقة لها بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد ، وهي تنشر القصائد السياسية والبيانات العسكرية ، لكنْ بعد فشل الانتفاضة عادت الطيارة الى اختصاصها السابق.

وما يهمنا في هذا الخصوص أن هنالك مجلة نصف شهرية اسمها ( المجلة) أثارت في وقت سابق جدلاً بسبب طبيعة أفكار القائمين عليها وهم في الغالب من  ذوي الصلة بالحزب الشيوعي العراقي السري.

صدرت المجلة لأول مرة عام 1938 عن نادي الجزيرة الثقافي الرياضي في الموصل شمال العراق وأعلن أصحابها أنها مجلة تخدم الفكرة القومية من خلال الأدب .

   في البداية كان يوسف الحاج الياس صاحب مبادرة إصدار المجلة وأسند مهمة رئيس التحرير الى عبد الحق فاضل ، وذكرت  في ترويستها أنها مجلة أدبية ثقافية عامة تصدر في اليوم الأول،  واليوم السادس عشر شهرياً  ، وكانت أحياناً  تتعرض للمتاعب  المالية فتتوقف بعض الوقت ثم تعود الى الاسواق.

     ثم انتقلت ملكيتها إلى ذوالنون أيوب الذي نقلها  عام 1939 الى بغداد واتخذ مكتباً لها في محلة الحيدرخانة حيث تنتشر  مكاتب الكثير من الصحف والمطابع واستمر على إصدارها حتى عام 1942 حين توقف بعد ان اضطر للتواري عن الأنظار نتيجة نشاطاته في الحزب الشيوعي السري.

وأسهم في تحرير المجلة عدد من الكُتاب والأدباء والمثقفين العراقيين منهم أكرم فاضل وعبد الفتاح ابراهيم وعبد المجيد لطفي وعبد المنعم الغلامي وعبد الحق فاضل ومجيد خدوري وسعيد الديوه جي ويوسف الحاج  وحسن زكريا وعبد الأحد إبراهيم ونائل سمحيري ومحمد عزة العبيدي ونجيب فاضل وتوفيق منير وعبد الكريم الصفار بينما كان كامل قزانجي مديراً مسؤولاً.

      وذو النون أيوب، وهو أديب وكاتب قصة معروف عراقياً وعربياً، كان مهتماً بقراءة القصص والأدب العالمي وهاجم في كتاباته النظم الاجتماعية السائدة، ودرس في مدارس مدينة الموصل ثم أكمل دراسته الجامعية في بغداد وتخرج عام 1929 في دار المعلمين العالية وعمل مدرساً في المدن العراقية ونشر القصة والرواية واشتغل في العمل الصحفي.

وعندما عارض ذوالنون أيوب نهج فهد في إدارة الحزب انشق عام 1941-1942 ليشكل تنظيماً شيوعياً  سرياً آخر وأصدر جريدته السرية إلى أمام هاجم فيها سياسات الجناح الأصلي وجريدته الشرارة.

وتولى في العهد الجمهوري عدة مناصب منها عميد معهد الفنون الجميلة ومدير عام في ديوان وزارة الارشاد عام 1959 وملحقاً ثقافياً في براغ وعاش في النمسا وتوفي في فينيا.

وسنرى في صفحات لاحقة أن ذوالنون أيوب وداود الصايغ سيصبحان عضوين في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السري ،ويتمردان على زعامة فهد للحزب حتى أن الكتاب الشيوعيين يسمون الصايغ  ( خبير الانشقاقات).

وفي الأيام التي سبقت الانتفاضة العراقية ضد الانتداب البريطاني في مايس 1941 ،أكدت المجلة في عددها الثالث للسنة الثالثة في 16 نيسان 1941  أنها ( حركة وطنية استبشر بها الشعب وشايعها بهذا الإجماع وأيدها بقلبه ولسانه هذا التأييد في هذه الظروف الصعبة ، وان حكومة الدفاع الوطني ليست حكومة طارئة ، إنما هي أمة تجاهد لتنال حريتها، وكفاح يطول لينتصر، أنها فكرة، أنها بداية لا نهاية).

وعشية الهجوم العسكري البريطاني نددت في عددها الرابع يوم 1 مايس 1941 بالمعاهدة البريطانية العراقية لسنة 1930 وقالت إن ( الشعب العراقي هب عن بكرة أبيه معارضاً تلك المعاهدة البريطانية التي أملتها علينا القوة الغاشمة والمطامع الظالمة ، وكانت عند التطبيق معاهدة لمصلحة جانب واحد هو جانب الاستعمار).

وظهر اهتمام الحزب الشيوعي السري بهذه المجلة عندما نشرت في عددها في الأول من مايس 1941 مقالاً كتبه فهد وهو الاسم السري لزعيم الحزب الشيوعي يوسف سلمان يوسف.

ويرى جرجيس فتح الله  في كتابه ( رجال ووقائع في الميزان )، أن جماعة مجلة “المجلة” وتحت تأثير ذوالنون أيوب اتجهت اتجاهاً ماركسياً ،وقد غلبت  على مقالاتها خلال الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 المواضيع الماركسية حتى أنه راح يرى بعض الماركسيين امثال يوسف سلمان يوسف( فهد) وداؤد الصائغ وقاسم حسن وعبد الله مسعود القريشي  يترددون على مكتبها ، والاهم من ذلك أنها باتت ، أي المجلة ، وبسبب وقوف الاتحاد السوفيتي الى جانب الحلفاء ضد الألمان والنازيين ( تعمل لقضية الحلفاء ) وتشيد بمنجزات الاتحاد السوفيتي في سوح المعارك ومجالات التقدم التكنولوجي والاجتماعي.

وفي منتصف مايس وبينما كانت المعارك تدور في الحبانية والفلوجة وضواحي بغداد، أصدرت المجلة عدداً خاصاً هو العدد الخامس، ملأت  صفحاته بالقصائد الوطنية والمقالات التي تبارك الانتفاضة وتندد بالاستعمار ، واختارت لها العناوين الحماسية مثل ( النصر لنا) و ( ثورة الشعب الجبار )، وجميعها مقالات كتبها ذوالنون أيوب وعبد الفتاح ابراهيم ونائل سمحيلي وأنور خليل وحسن زكريا وعبد الحق فاضل.

والمفاجأة أن كل هذه الحماسة قد تبخرت في الهواء بعد فشل الثورة فغيرت المجلة موقفها كما سنرى في سطور قادمة.

وقد أسهب مالك سيف في كتابه للتاريخ لسان ، ذكريات وقضايا خاصة بالحزب الشيوعي العراقي منذ تأسيسه حتى اليوم ، الصادر عام 1983 عن دار الحرية للطباعة ببغداد ، في شرح ملابسات وتفاصيل موقف المجلة وكذلك الحزب الشيوعي من الانتفاضة العراقية عام 1941.

*****

وكما هو معروف في تاريخ الصحافة العراقية، إن الحكومة العراقية التي شكلها النفوذ البريطاني فور إخماد الانتفاضة قد عطلت أو أغلقت المطبوعات التي أيدت الانتفاضة لكن مجلة “المجلة” نجت من التعطيل لأسباب غامضة واستمر ذوالنون أيوب في إصدارها حتى أوائل عام 1942.

ولم تعرف أسباب توقف المجلة عن الصدور ، لكني أفترض أن أيوب أوقفها ليتفرغ للعمل السري في الحزب الشيوعي وينهمك في خلافه مع زعيم الحزب فهد ثم ينشق عنه كما ورد في السطور السابقة.

وطيلة الشهور التي عاشتها -بعد فشل الانتفاضة العراقية بدأت المجلة تعالج الأحداث وفقاً لنتائج دخول الاتحاد السوفياتي في 22 حزيران 1941 للحرب ضد ألمانيا ودول المحور ، فاصبحت الحرب العالمية في صفحاتها ( حرباً تحريرية عادلة وإنسانية) بعد أن كانت تصفها  بحرب بين ( قوتين استعماريتين هما بريطانيا وألمانيا) .

وراحت المجلة اعتباراً من عدد تموز 1941 رقم 6 إلى عدد كانون الأول عام 1941 رقم 14 تكثر من الحديث  عن نواحي الحياة في الاتحاد السوفيتي وخاصة في مجالات الأدب والفن والصحافة والاقتصاد والإنتاج والأجور، واعتبرت الحرب (  صراعاً بين الفاشية والاشتراكية). وكتب مقالاتها هذه عبد الله مسعود، الشخص الثاني آنذاك في قيادة الحزب الشيوعي السري بعد فهد، وداود الصائغ وذو النون أيوب، وغيرهم.

ولموقف الحزب الشيوعي السري تجاه انتفاضة مايس قصة يجب أن تروى في هذا المجال. ففي البداية ارتاح الحزب( جناح فهد) لقرار حكومة الكيلاني بإقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي ، وبعث بمذكرة إلى رئيس الحكومة يعرب له فيها عن تأييده للثورة التي وصفها الحزب بأنها( الحركة الوطنية) ، وعبر له عن تهانيه على مساندة الشعب العراقي لها ، لكنه اعترض في مذكرته على ما كان يشاع عن طلب الحكومة المساعدة الأجنبية(ألمانيا ) ، وقال إنّ ذلك سيجعل العراق (جزءاً من الحرب الاستعمارية الغاشمة).

وقد نشر حنا بطاطو في الصفحة رقم 453 – 455 من كتابه باللغة الانكليزية ترجمة لنص هذه المذكرة كما نشرتها صحيفة الحزب الشيوعي في جريدته السرية ( الشرارة) العدد المزدوج 6 – 7 لشهر مايس 1941 وقال إن رشيد عالي الكيلاني اعترف له خلال مقابلته له عام 1964 بتسلمه لتلك المذكرة من الحزب الشيوعي.

وقد اعترف الحزب في هذه المذكرة بأن حكومة الكيلاني قد عالجت فعلاً غلاء الأسعار وأطلقت سراح السجناء الشيوعيين المعتقلين منذ عام 1937 .

لكن  الحزب تراجع في شباط 1943 عن موقفه المؤيد لحكومة مايس 1941 وعن موقفه من الحرب في أوروبا، ليعلن عن تأييده ، هذه المرة، لإعلان حكومة نوري السعيد الحرب على دول المحور ، وقال في صحيفته السرية الجديدة( القاعدة) إن الحكومة العراقية القائمة (بإعلانها هذه الحرب العادلة كانت لساناً فصيحاً يعبر تمام التعبير عن رغبات الشعب العراقي).

وفي آذار 1944 ، أعلن فهد زعيم الحزب في الكونفرينس الأول للحزب بان( تأييد الحزب ) لثورة 1941 ( كان خطأ سياسياً )، وفي عام 1953 أصبحت تلك الثورة عند الشيوعيين (فاشية وإجرامية).

وقد اقتبس حنا بطاطو ، في الصفحة رقم 461 ، آراء فهد من صحيفة الحزب السرية( القاعدة) لشهر شباط 1943 وشهر حزيران 1943 وشهر نيسان 1953.

مقالات ذات صلة