مؤسّس “المنهج الأخلاقي” في الأداء..قراءة في مذكرات مدير الشرطة عبدالجبار الراوي..



تشكّل (ذكريات) و(مذكّرات) كبار ضباط الشرطة العراقية التي صدرت خلال القرن الماضي، مرجعاً مهماً في سفر تاريخ جهاز الشرطة العراقية، وتحليل دقيق لمحطات مشهودة من تأريخ هذا المسلك الذي شابته شوائب عديدة، وتعرّض تأريخه للطعن والتحريف والتأويل، كلٌ يراه من زاوية نظره وتفسيره ومرجعيته، فالبعض من السياسيين العراقيين يرى في الشرطة أداة بطش بيد النظم السابقة، وعصا للقمع والتنكيل والإضطهاد، وآخرون يرون غير ذلك منطلقين من كون الشرطي إنما يُمثل عصا القانون، وهو المنفذ للأوامر والتعليمات، ولا يفترض أن نتخيل الشرطي سياسياً أكثر من السياسيين، فهو لا ينفذ غير أوامر القانون والتعليمات.
ومن بين كتب المذكرات الشخصية المهمة التي دوّنها كبار ضباط الشرطة العراقية هي مذكرات المرحوم الفريق عبدالجبار الراوي (1898 – 1987)، أحد أبرز قادة الشرطة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، الذي دوّن فيها أهم الأحداث التي صادفته من خلال مسيرة عمله المُضني في سلك الشرطة، وخصوصاً في المراحل المبكرة من تأسيس الشرطة، وتنطوي تلك المذكرات على تفسير للأحداث، وعرض لتفاصيل الإجراءات والمواقف الميدانية التي تعرّضت لها الشرطة في بغداد ومحافظات العراق.

إبتداء لابد أن نعرف من هو صاحب المذكرات؟
- إنه الفريق عبد الجبار عبد الله احمد الراوي، من مواليد راوه 1898 شارك في الحرب العالمية الأولى ضابطاً في الجيش العثماني سنة 1916 وجرح أثناء حصار الجنرال ثاونزند في الكوت ومنح وسام الحرب .
- انضمَّ إلى قوات الثورة العربية سنة 1917 وعُيِّن في جيشها الشمالي برتبة ملازم أول وتولى فيه وفي جيش الحكومة العربية في الشام واجبات مختلفة، وبعد سقوط دمشق في يد قوات الاحتلال الفرنسي، عاد إلى العراق .
- انتمى إلى الجيش العراقي عند تأسيسه في سنة 1921 برتبة ملازم أول، ونقل إلى الخدمة في الشرطة سنة 1922 لقيادة بيرق الهجانه الشمالية، وتدرج في الوظائف والرتب من معاون شرطة (ملازم أول) إلى درجة مدير شرطة عام (برتبة فريق)، كما عهدت إليه وظائف : مدير إدارة البادية، متصرف لواء الحلة، متصرف لواء كربلاء، مدير السجون العام، ثم عميد كلية الشرطة (مدير المدارس) وأحيل إلى التقاعد سنة 1955 .
- منح أوسمة عديدة منها: نوط معان، نوط الاستقلال، وسام النهضة، وسام الرافدين .
- تم انتخابه نائباً في المجلس النيابي سنة 1958 واختير لعضوية مجلس (الاتحاد العربي). له مؤلفات عديدة أشهرها : كتاب (البادية) وطبع بثلاث طبعات. وكتاب (أحكام من القرآن) وطبع طبعتين، ومخطوطة بعنوان (من ثمرات المطالعة) .
- توفي في بغداد يوم 26/12/1987 ودفن في مقبرة الكرخ .

المناصب والمسؤوليات التي شغلها الراوي:
يقول الراوي صاحب المذكرات: ((عملت بشرطة بغداد عدة مرات، في أوقات مختلفة، تغيرت فيها المناصب والمسؤوليات، فقد عملت معاوناً لمدير شرطة لواء بغداد في العشرينات وعملت مديراً لشرطة لواء بغداد في عقد الثلاثينات كما عملت معاوناً لمدير الشرطة العام للحركات، ثم مديراً عاماً للشرطة في عقد الأربعينات وأخيراً عميداً لكلية الشرطة في الخمسينات)).

يضيف الفريق عبدالجبار الراوي: (( التحقت بوظيفة معاون مدير شرطة لواء بغداد في 17 تشرين الأول 1926 وكانت تشكيلات مديرية شرطة لواء بغداد حينها تتألف من المدير، تتبعه خمس معاونيات وهي :
- معاونية السراي: وتشمل المنطقة ما بين الشورجة والصليخ وبضمنها الأعظمية.
- معاونية العبخانة: وتشمل المنطقة الممتدة ما بين الشورجة حتى الباب الشرقي.
- معاونية الكرخ: وتشمل مناطق الكرخ وكرادة مريم والكاظمية والمحمودية ونهر دجلة بكامله ضمن حدود بغداد.
- معاونية الكرادة الشرقية: وتشمل المنطقة من الباب الشرقي وحتى سلمان باك (المدائن).
- معاونية شرطة سامراء: وتشمل سامراء والدور وتكريت وبيجي، وجميعها كانت نواحي تتبع قضاء سامراء التابع لبغداد)).
وكانت قوات الشرطة مؤلفة من فرسان ومشاة فقط، ولم تكن فيها سيارة مسلحة أو سيارة للنقل وكان لمعاونية شرطة الكرخ زورقان صغيران يتسع الواحد منهما لخمسة أشخاص.
ويذكر الراوي أنه كان مخولاً (سلطة محقق) من وزير العدلية، لذا كان يحضر التحقيق في جميع جرائم الجنايات التي تحدث ضمن المنطقة، وكان يقوم بتنظيم التقارير الخاصة بالجرائم الواقعة.

الموظفون البريطانيون في الشرطة
كان للموظفين البريطانيين المنسبين الى مسلك الشرطة في تلك المرحلة، نفوذ وسلطة كبيرين، فمثلا كان في مقر شرطة بغداد ضابطا تفتيش بريطانيان هما (الميجر بتلر) و (الكابتن ولكنسن). وكان الضباط العراقيون، ومنهم مدير شرطة لواء بغداد، يتهيبون منهما ويحسبون لهما حساباً. وهذان الضابطان كانا تابعين لمفتش عام الشرطة (الكولونيل بريسكوت) وهو كان صاحب نفوذ وسلطة في مديرية الشرطة العامة، و يستمد سلطته من مستشار وزارة الداخلية المدعو (كنهان كورنووالس)، ومع ذلك فيروي عبدالجبار الراوي في مذكراته ان مدير الشرطة العام في العشرينات (الحاج سليم) كان يقف بوجه الكولونيل بريسكوت بقوة ويتصدى لنفوذه، ولا يسمح له بالتدخل في قرارات الشرطة .
وكان في مركز شرطة السراي عريف بريطاني يدعى (سير جنت دين) ومفوض تدريب هندي أسمه (واجه) يقومان بتعليم المراتب الذين يعينون حديثاً في قاعة تقع عند سطح مديرية شرطة لواء بغداد .

الراوي يحارب الفساد في الشرطة:
يقول الراوي في مذكراته: (( تبيّن لي من خلال تحقيقاتي، أن مأمور مركز شرطة الكرخ (المدعو المفوض توفيق) كانت له علاقة بالسراق، وكان متفقا معهم حول السرقات، وذلك لأنه كان ملتزما من قبل ضابطي التفتيش البريطانيين، وحين أصررت على إحالته للمحكمة، بعد أن كشفت هذه العلاقة المشبوهة، فقد دبرت لي مكيدة وتم نقلي إلى شرطة بعقوبة في 24/5/1927. وبعد التحاقي بشرطة بعقوبة جاء مدير الشرطة العام الحاج سليم إلى لواء بعقوبة للتفتيش، فقال لي: لقد عاقبنا المفوض توفيق بتنزيل الدرجة مع غرامة نقدية، فهل يرضيك هذا ؟ قلت له: كنت افضل أن يساق إلى المحكمة لكي تبرهن الشرطة بوضوح إنها لا تتستر على عيوب المنتسبين اليها، ولكي يكون هذا الإجراء رادعاً للآخرين الذين تحدثهم نفوسهم بالإساءة إلى واجباتهم، وفعلا تمت إحالة المفوض المذكور على المحكمة وعوقب)).

الراوي يشغل منصب مدير شرطة لواء بغداد
في الثلاثينات كان المنصب الأول الذي شغله الراوي هو معاون مدير الشرطة العام للحركات، إلا أنّ وزارة الداخلية طلبت منه في 25 ايلول 1935 أنْ يشغل منصب مدير شرطة لواء بغداد، ويقول الراوي: (( لقد وجدت في بغداد بعض الأمور التي عددتها مخالفة للعدالة، إذ كان المشبوهون بالسرقات يحتجزون في المراكز ليلاً، خوفاً من ارتكابهم السرقات. فلم أقتنع بهذا الإجراء لأنه مقيد للحرية، ومخالف للعدالة، فالشخص إما أن يكون بريئاً فتترك له حريته، وأما أن يثبت ارتكابه جرماً ما، فيجب تقديمه إلى المحاكمة، لذلك أبطلت هذا الإجراء، وأنشأت خفارة للمراكز، وأخرى لمراقبة الدوريات، وجعلت هذه الدوريات مع الحراس مسؤولين عن حوادث السرقة التي تقع ضمن مناطق واجبهم، باعتبارهم إما شركاء في الجريمة أو مهملين لواجباتهم… وكنت كلما حدثت سرقة في منطقة ما، طلبت توقيف حراسها ودورياتها باعتبارهم مهملين لواجباتهم . وباتخاذ هاتين الخطوتين انعدمت السرقات في العديد من مناطق العاصمة تقريباً. الأمر الآخر الذي لم يرقني، هو قيام الشرطة، خلال الليل، بطرق أبواب الأشخاص المحكوم عليهم بوضعهم تحت مراقبة الشرطة ليظهروا مبرهنين وجودهم في الدار، خاصة الأشخاص المحكومين بقضايا سياسية، لذلك أصدرت أمرا بإبطال هذا الأسلوب غير المقنع، والذي يزيد من كراهية الشرطة، لقد كان كل همي أن ينام الناس في بيوتهم مطمئنين ملئ عيونهم آمنين.))

قصة توقيف جورج نعيم:
في أحد الأيام، كان وزير الداخلية على خط الهاتف، يحادث مدير شرطة بغداد عبدالجبار الراوي، طالبا منه أن يقبض فوراً على شخص إسمه (جورج نعيم)، فما كان من مدير شرطة بغداد إلا أن يجيب : (سيادة الوزير، من الأفضل أن يأتيني هذا الأمر عن طريق متصرف لواء بغداد)، فوافق الوزير –على مضض – على ذلك، وبعد أقل من ساعة كان المتحدث على الهاتف هو متصرف بغداد شخصياً، وهو يطلب من مدير شرطة بغداد توقيف نفس الشخص (جورج نعيم)، فما كان من مدير شرطة بغداد إلا أن يطلب من متصرف بغداد أن يعزز هذا الأمر الشفهي تحريرياً، لكن المتصرف انزعج، وأبدى إمتعاضه من إصرار الراوي على عدم تنفيذ أمر الوزير وأمر المتصرف، لكن مدير شرطة بغداد أصر على مبدئهِ موضحاً للمتصرف أن هذا هو الطريق القانوني السليم، لأن الشرطة لا تقبض على الناس دون أوامر قبض صريحة وتحريرية وواضحة مع ذكر التهمة.

مدير الشرطة يرفض أمر الحكومة بالرقابة للحد من تصرفات الملك غازي الشخصية
عدّت وزارة ياسين الهاشمي بعض سلوك الملك غازي وتصرفاته الشخصية لا تليق بملك البلاد، لذلك فقد أقدمت وزارة الداخلية على بضعة إجراءات وابتداءً من 14 حزيران 1936 للحد من تصرفات الملك. فأحدثت مثلاً مخفراً للشرطة بجوار قصر الملح – الحارثية – الذي اتخذه الملك قصراً ثانياً له يقضي فيه أكثر اوقاته. ولم تكتف الوزارة بذلك، فأرادت أن تبعد عنه سائق سيارته (ابراهيم)، إلا أنها اتبعت طريقة غير مألوفة، فبدلاً من أن تتبع الإجراءات القانونية، فقد طلبت من مدير الشرطة العام أن يهيء أشخاصاً يتشاجرون مع السائق المذكور في إحدى الليالي، لاتخاذ ذلك ذريعة لتوقيفه وإبعاده عن مصاحبة الملك. ولما جرت محادثة مدير شرطة بغداد بذلك، فقد استنكر هذا الإجراء وقال لمن بلغه الأمر: إنه من العار على الحكومة أن ترتكب مثل هذا التزوير الشائن، ولكن في إمكان الشرطة القبض على السائق وزجه في السجن فقط في حالة مشاهدته وهو في حالة سكر بيّن، أو عند ارتكابه جرماً مشهوداً، وبخلاف ذلك يمتنع مدير شرطة بغداد عن المشاركة في تنفيذ إجراء غير قانوني!! يقول الراوي في مذكراته (إن معارضتي للأمر ليس فقط لأنه يمس ملك البلاد، ولكن لأنه مخالف للقانون والعدالة، ولاعتقادي أنّ كل حكومة تزوّر الحقائق مهما كانت الغاية من ذلك العمل، تمهد لنفسها الزوال.)

الراوي في منصب مدير الشرطة العام
شغل عبدالجبار الراوي منصب مدير الشرطة العام في 6 حزيران 1945 في ظروف صعبة، إثر انهيار ألمانيا النازية واستسلامها للحلفاء في 8 آيار 1945 باعتبار أنّ العراق كان حليفاً لبريطانيا في تلك الحرب. كما حصلت حركات الشمال في أعقاب حركة الملا مصطفى البرزاني، وعزيز ملو في الشمال، إضافة إلى تفاقم الواجبات الاعتيادية للشرطة. وعند تسلمه مهمات وظيفة قيادة الشرطة العامة فقد كان يتبعها 14 مديرية شرطة لواء، إضافة إلى مديريات شرطة السكك والكمارك والسفر والجنسية والإقامة والمرور والمخابرة والقوة السيارة والمدارس والبادية الجنوبية والبادية الشمالية وبادية الجزيرة، فضلاً عن تشكيلات المقر وهي : التفتيش والحركات والتحقيقات الجنائية (التي أصبحت فيما بعد الأمن العامة) والإدارة والمحاكم والصحة .
خطة العمل التي أتبعها عبدالجبار الراوي:
يقول عبدالجبار الراوي في مذكراته: ((.. لقد مارست العمل في مسلك الشرطة 24 سنة أمضيتها في شمال العراق وجنوبه وشرقه وغربه وفي البوادي والمدن، واكتسبت خبرة عن محاسنه ومساوئه، حتى توليت منصب مدير الشرطة العام. وإذا كنت قد رسمت خطة وعينت لها أهدافاً، فإن ذلك لم يكن ارتجالاً وإنما كان نتيجة تفكير يعتمد التجربة وكانت خطتي في العمل ترمي إلى ثلاثة أهداف :
- رفع مستوى ضباط وأفراد المسلك .
- تقوية قوات الشرطة وجعلها قادرة على القيام بواجباتها .
- جعل الشرطة خادمة للشعب حقاً وصدقاً.))

الراوي يرفض ترقية بهجت العطية!!
كان الراوي أول من وضع نظاما في عدم ترقية (معاون مدير شرطة) إلى درجة (مدير شرطة) ما لم يجتز دورة الضباط العليا أولا،ً ثم يقود بنجاح فوجاً من أفواج شرطة القوة السيارة ثانياً، حتى يصبح معلوماً للجميع في سلك الشرطة أن التعلم والثقافة والتجربة العملية هي الطريق الوحيد للتقدم. وقد حدث أن طلب وزير الداخلية منه إصدار أمر إداري يتضمن ترقية (بهجة العطية) وكان وقتها وكيل مدير شرطة لواء الديوانية، إلا أن الراوي رفض إصدار أمر ترفيعه، وأصر على التمسك بخطته المشار اليها، لأنه لا سبيل إلى ترفيع أي ضابط مهما كان موقعه، من معاون (نقيب) الى مدير شرطة (رائد) ما لم يدخل الدورة، وينجح فيها، ومن ثم ينجح في قيادة فوج في القوة السيارة، ومن ثم يرفع ويعاد إلى الديوانية، وهكذا لم يتم ترفيع بهجت العطية، طيلة مدة وجود الراوي في رأس الشرطة العامة، يقول الراوي: (( ليس ذلك لأن بهجت العطية لا يستحق الترفيع، بل من أجل الإلتزام بالخطة التي رسمتها لرفع المستوى المهني والكفاية العملية لرجال هذا المسلك . ولكي يعلم رجال الشرطة الآخرون أن هذا الأمر لا يخضع للمؤثرات ولا يستثنى منه أحد)).
