تحقيق

ليلة في تلعفر.. أو بالآرامية “تلله عبره”; تل التراب”..

     كان ذلك مساء السادس من كانون الأول 1995 .. وقتها كانت الشمس تنحدر نحو المغيب . أخالها كرة حمراء ، فيما نشرت رداءً بذات اللون على جزر السحب الموزعة هنا وهناك . ومن حين لآخر كان قرص الشمس يختفي خلف تلال عديدة .

   في ذلك الوقت والتاريخ ، وحيث النسيم البارد يداعب الوجوه برفق ، كانت السيارة التي تقلنا تسرع متجهة نحو الغرب .. مدينة الموصل بقيت خلفنا .. والآن نحن متجهون غرباً في سباق مع الشمس ، الإعلامي حسن الركابي يجلس خلف مقود السيارة ، والنسابة ثامر العامري يكرر الحديث حول أنساب العشائر .

     والسيارة تنهب الطريق الإسفلتي ، كنت أستعيد ما قرأته عن جغرافية هذه المدينة : تقع في القسم الغربي من مدينة الموصل. ويحدها من الشمال نهر دجلة .. تتميز أرضها بالتضاريس المتموّجة .. ومناخها معتدل .. وهي غنية بالثروة الزراعية والحيوانية والمعدنية .

     ويتكون اسمها من كلمتين : تل .. ومعناه معروف . و(أعفر) ومعناها : التراب . فتصبح دلالة الاسم ، عند الاحتكام للمدلول اللفظي ، تل التراب . وعندما شقّت السيارة طريقها داخل المدينة كان (عدّاد) السيارة يشير الى الكيلومتر رقم (60) ، وكان لابّد للوفد الزائر أنْ يقوم بجولة سريعة في المدينة ، فيما قمت بجولة مضافة حين عدت الى مصادري وفيها قرأت :

* ((تلعفر اسم مركب من لفظين ، التل .. و .. عفر ، فالتل معروف بدلالته ، و .. عفر .. هو التراب ، وقديماً كانت تلعفر تتموج بتلال التراب ، فجرت التسمية على هذه الصفة ، وهناك قرى في تلعفر يقترن اسم التل ببدايتها .. ومنها : تل الريم .. و … تل خضر .. وغيرها . وهو تأكيد على تموج أرض تلعفر . وقيل إنّ الاسم آرامي (تلله عبره) أي تل التراب .. )).

           سومر وبابل وأشور

      “أهل تلعفر ينتابهم مرض المدن العريقة ، ففي كل قرية يتألق تاريخ الشهادة . وفي كل الأزمنة دافع الأعافرة عن شرف القلعة . فقدموا ذهبهم ورؤساء بطونهم واقلام شعرائهم ، قدموها بنية ذلك العراقي الذي فيه جزء من سومر وبابل وآشور . فيه حرارة السيف الاسلامي وافكار عياض بن غنم الذي حرر الجزيرة الشمالية من الرجس وعقد المعسكرات الاجنبية . وكانوا يقدمون الى الأرض بدون منة ، لأنها – أي الأرض – كانت تربّي في أعماق الأعافرة الإيمان ، فيزرعون بالإيمان والقدر فيصلون الى تاريخ العراق، فسيجدون الوطن الذي تآلفوا فيه تراباَ ودماَ ودعاء”.

هذا ما كتبه الراحل حميد المطبعي ( رحمه الله ).

أغلقت باب الذاكرة التاريخية مؤقتاَ .. والمدينة – رغم هذا الجو الشتوي – تعج بالنشاط غير عابئة بالليل الذي قدم كجيش مجلل بالسواد من خلف المرتفعات .. نحن الآن في قلب التل المعفر بالتراب .. .

               الشمس تودعنا

     ومع وصولنا ، بدأ الظلام يزحف على أديم هذه الارض ، لقد ودعتنا الشمس..وهي تجري خلف تلك التلال .. الوقت زاد على الساعة الخامسة مساء ، حين وقفت السيارة التي تقلنا في باب الدار التي قصدنا .. عندها كنا بمواجهي (التلعفري) !! .

   ومن المفيد القول: إنني كنت على اتصال هاتفي معه في الليلة التي سبقت وصولنا .. وعندما أغلقنا طرفي الخط الهاتفي ، كانت الجولة – بكافة محاورها – قد تم ترتيبها .. وكانت المحطة الأولى في هذه الجولة هي ديوان الشخصية الأدبية المعروفة (المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري) .. وبعد طرقات خفيفة على الباب كنا بمواجهة تلك الشخصية .. .

     وسرعان ما انتظم الديوان .. وبدأ يكبر مثل كرة الثلج ..كانت نواة الديوان (الأستاذ علي ونجله حيدر) .. والوفد القادم من بغداد .. وتقاطر حضار مجلس التلعفري ، أبو أسعد (قائمقام متقاعد) .. بينما (النسابة ثامر العامري) ينتحي جانباً يستدر المعلومات – بصعوبة بالغة – عن الأنساب العربية لسكان هذه المدينة .. .

                *****

     وبدأت بحوار (التلعفري) الذي صاهر قبيلة (بني لام) بزواجه من احدى بناتها .. وتحت عنوان (صفحة من أيام عمري) قرأت ما كتبه الأديب (علي الشيخ ابراهيم) :

* ولدت في تلعفر في الثاني من مايس 1935 من عائلة ذات ثقافة صوفية – دينية ، سُمّيت (علياً) تيمناً باسم جدّي (الشيخ علي بن ملا محمد) ، الذي توفى سنة 1921 بعد أنْ ساهم ببعض وقائع

ثورة العشرين في منطقة تلعفر ، تعلمت الأبجدية وختمت القرآن في زمن قياسي على يد المرحوم : ملا أحمد . وعن هذا الطريق تعلمت القراءة والكتابة قبل التحاقي – عام 1947 – بمدرسة (تلعفر الثانية) . وكان ميلي شديداً نحو قواعد اللغة العربية ، لأنّ المرحوم والدي كثيراً ما كان يردد على مسامعي : إنّ الذي يجيد (النحو والصرف) يقدر على ضبط قراءة القرآن الكريم وتجويده .

* في (متوسطة تلعفر) كان (علي التلعفري) مثال الطالب المجد ، ولعل أبرز حدث ثقافي صادفه آنذاك ، أنّ ادارة المدرسة ، قررت إصدار نشرة جدارية ثقافية فوقع الاختيار عليه ليكون رئيس اللجنة الثقافية التي تولت إصدارها تحت اسم (القبس) . يومها كتب الطالب (علي) افتتاحيتها .. والتي جاء فيها : القبس .. وما أدراك ما القبس ؟ انها نور مقتبس .. الخ . وكان واضحاً ان ثقافته الدينية تكمن وراء هذا النوع من الأسلوب الادبي المبكر .

باحث في فنون الفلكلور

* سألته ، وكان السؤال قفزة في التسلسل التاريخي لهذا الحوار . جاء في (موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين) للباحث حميد المطبعي ، وصفك (باحث في فنون الفلكلور) .. فما هي خلفيات هذا الوصف ؟ .

* أجابني بهدوء وصوت يسمع بصعوبة : (المطبعي) على صواب في ذلك ، فقد كتبت سلسلة من الابحاث الفلكلورية في الاعوام المبتدئة من عام 1969 وحتى عام 1980 في مجلة التراث

الشعبي ، وكتبت كذلك عن الموسيقى الشعبية والأزياء الشعبية في مجلة اتحاد الادباء التركمان (صوت الاتحاد) عام 1970 .

* ومجدداً وضعت الحوار على سكة (الجانب الاجتماعي)

* قال لي باسترسال ينم عن ذاكرة حية : تحت ظرف مالي يتصف بالقساوة ، التحقت بإعدادية الشرطة ببغداد عام (1954 – 1955) فكنت أولاً في صفي خلال سنوات الدراسة حتى تم تعييني كمفوض للشرطة ، تلته فترة التحقت فيها بالصف الخامس في (ثانوية النضال) فحصلت على شهادتها ، ثم التحقت عام 1959 بكلية الحقوق (القانون والسياسة) بعد أنْ انقطعت علاقتي بالشرطة بصورة نهائية .

رئيس اتحاد الأدباء التركمان. يضيف التلعفري..

* يضيف التلعفري : حالت الظروف بيني وبين إكمال دراستي القانونية حيث عدت اليها سنة 1968 ، فنلت في العام التالي شهادة (البكالوريوس في القانون).

    ولكن رغم تواضعه الجم ، ورغم بعض الثغرات التي تحتاج الى ما يمليها في ما ذكر من معلومات ، فإنّ الوسط الثقافي العراقي يتذكر أنّ (المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري) كان أول رئيس لـ(اتحاد الأدباء التركمان) في بداية تكوينه بعد 17 تموز 1968 . كما عمل نائباً لرئيس الاتحاد لعدة سنوات بعد رجوعه الى مدينة تلعفر لممارسة المحاماة .

     التلعفري يهتم – بصورة خاصة – في (ثورة العشرين) ويقول : إنه يعتز بالبحث فيها والكتابة عنها . كما يهتم بتاريخ العراق الحديث ، وبالأدب التركماني . وعلى الرغم من تحصيله الأكاديمي (القانون) فانه يميل الى الدراسات الأدبية والتاريخية والتراثية . وقلما ينشر في مجال (الدراسات القانونية) وكل ما قام به في هذا الجانب بضع مقالات نشرت في حينها .

* وعندما سألته عن اعماله الادبية الجاهزة للطبع ..

* قال التلعفري : لديّ المخطوطات التالية وهي جاهزة للطبع : ثورة العشرين التحررية .. الشعارات والاهداف – من مأثورات التركمان الشعبية – الرؤى الثورية للثقافة التركمانية بعد 17 تموز 1968 – من مأثورات تلعفر الشعبية – رحلة نقدية في بطون الكتب – الواقع الموضوعي للهوسات الشعبية ، لكن ما ذكره ليس سوى جزء من عطائه الادبي .

المربع الذهبي

يقيم التلعفري – الآن – بشكل دائمي في تلعفر . وله من الأولاد خمسة ، ولازال – كما يقول – يمارس المحاماة مهنة المشاق والتعب . أولاده بالتسلسل : حسن – حيدر – حسين – حكمت . وهم من أُمَّيْن : أم تلعفرية .. و .. الثانية بغدادية من بني لام . ويقول إنّ له خمس بنات بعضهن موظفات .

   الساعات تمر سريعاً ، والليل قد انتصف ، ورغم تعبنا حيث غادرنا بغداد مبكرين ، فقد كنا مستعدين للمطاولة في السهر حباً في الحديث ، ورغبة بالاستزادة .. فيما لاحظت أنّ (الديوان) يتوزع صدارته ما يمكن أنْ نسميه (المربع الذهبي) .. ونعني به المربع وأضلاعه المحامي علي الشيخ ابراهيم التلعفري .. و .. السيد علي الموسوي (ابو حسين) .. و

.. الحاج فاضل حسين قدو .. و .. علي عبد الله (أبو طلال) هؤلاء الأربعة هم أضلاع (المربع الذهبي) المعروف في تلعفر .

* استمر الحديث وتشعب ، رغم أنّ نهره الرئيس كان : أنساب أهل تلعفر وعروبيتهم وعراقيتهم الصميمة .. وتحس أنّ أهلها قد كسبوا جولة الصراع مع مزيفي التاريخ أولئك الذين ظلموا الحقيقة .. وتلعفر وتاريخها .. .

      صباحاً ، وبعد ليلة مضى أكثرها في الحوار والاستماع ، غادرنا تلعفر تلك المدينة التي انسجمت – بوعي وادراك – مع هويتها الوطنية العراقية .. فيما ودعنا المحامي علي الشيخ ابراهيم ونجله حيدر ، بعد ضيافة كريمة.

مقالات ذات صلة