أدب

لماذا يعيبُ “الحجّاج” في “الملائكة” ميلَها إلى الإسلاميين والقوميين والبعثيين وعبد الناصر؟!

أنا “قارئاً للشعر” من المُدْنَفين بكثيرٍ من نصوصِ الشاعر البصريّ ذي الثمانينَ ونيّفٍ، كاظم الحجّاج، وهاكم أنموذجَاً، قصيدَته “البصريون”:  

     إنّ جمال القصيدة ليطغى، كاشفاً عن معماريةِ نصِّها الحجّاجي، شكلاً، لغةً، إيقاعاً، وهو نصٌّ إبداعيّ، يُفصحُ بقوّة عمّا هي عليه أخلاقيات أهلُ البصرة، دماثةً، وجوداً، وحُسْنَ عِشرةٍ، وسيرة مجتمعٍ دأبَ على التضحية، والصبر، وحبّ الحياة!.

      أريد أنْ “أتشفّعَ” بجمال القصيدة، وبأخلاقيات مجتمعِ البصرة، لأعاتبَ الشاعر المبدع كاظم الحجّاج على ما صدر عنه من “انتقادات لا لزوم لها!!” وجَهها للشاعرة الرائدة نازك الملائكة، ومع أنّ الريادة الحقيقية في “الثورة” على تقليدية البناء الشعري، تبقى لبدر شاكر السيّاب، الشاعر البصري الكبير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، لكنْ لا أحدَ يُنكِرُ على السيّدة نازك الملائكة -برغم أنها لا ترقى في شعرها لما كان عليه السيّاب من شأوٍ إبداعيّ- ما لها من حضورٍ رياديّ، اعترفَ به الكثيرون من النقاد، والأدباء، ممّنْ عاصروا الإثنين الملائكة والسياب!.

     وقبل ذلك لنعرض “ثيمة الانتقاد أو الانتقاص” التي أثارها الحجّاج كما اطّلعنا عليها:     

     أقام اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة يوم السبت “الموافق 22-12-2024” جلسة أدبية بعنوان “الفحولة النقدية حول نازك الملائكة” قدمها الناقد أحمد الزبيدي، بحضور الشاعر كاظم الحجاج، الذي أثار “لغطاً” في حديثه عن الشاعرة نازك الملائكة، زاعماً أنّها لا تستحق وصف “الرائدة” لارتباطاتها البعثية والقومية والإسلامية، وأنها لا تحمل في قصيدتها أي دلالة أنثوية حقيقية، معرباً عن احترامه لها كشاعرة، لكن مع التأكيد على أن وصف “رائد” ينطبق فقط على بدر شاكر السياب.

    وأوضح فيما بعد قائلا: لم أقصد أن نازك الملائكة اسلامية وبعثية بل انحازت لهم. وقال لـ”شبكة 964: “نازك الملائكة كانت مرتبطة بالقوميين والإسلاميين والبعثيين، وهذه التحولات الفكرية انعكست على تجربتها التي تفتقر إلى الحس الوطني وروح الانتماء للمبادئ السامية، خاصة في مرحلة التجديد التي عايشتها مع السياب. لا أحب أن أقول إنها رائدة، هي شاعرة محترمة، لكن وصف “الرائدة” لا يناسبها؛ هذا اللقب يخص السياب وحده، ولا أحد آخر يشاركه في قصيدة الشعر الحر.

   وتابع الحجّاج: توجهات الملائكة القومية والإسلامية والبعثية كان لها تأثير كبير على تجربتها الأدبية، وهو ما تجلى في تأسيس اتحاد أدبي انشق عن التيارات الأدبية التقليدية، مما جعله يفتقر إلى الاحترام الكامل من بعض الأوساط الأدبية.

    دعونا من كل ما تقدّم، ولننظر فقط فيما قالهُ الحجّاج تصحيحاً لما فات من “القال والقيل”، إذ نُقل عنه قوله:

    “في مداخلتي النقدية حول محاضرة الدكتور أحمد الزبيدي (أنا لم أقل) إن السيدة نازك الملائكة لا تستحق الريادة، ولم أقل إنها بعثية بل قلت إنها من عائلة ارستقراطية غنية، وإنها من أسرة نجفية متدينة، والمتدين طبعاً هو محافظ على الفكر الماضي وهو يقدس ماضيه، بمعنى أنه بعيد عن ريادة التجديد والتغيير، أي أن المجددين لا يقدسون الماضي لأنهم مستقبليون، والسيدة نازك قد خرجت على عمود الشعر بصورة ربما مزاجية وليست فكرية، كما أنني انتقدتها على خروجها على اتحاد ادباء العراق منذ تأسيسه بقيادة الجواهري الذي هو تقدمي وطني ولم يكن شيوعياً، وانحازت إلى أدباء إسلاميين وقوميين وبعثيين معادين للثورة وللجمهورية العراقية الناشئة ومالت إلى مصر وعبدالناصر أكثر من ميلها إلى وطنها، هذا ما قصدته أنا”.

     إذن فهي -برأي الحجّاج- أرستقراطية (فمن أين تأتيها معاناة الشعر؟!)، وهي من أسرة نجفية متديّنة (فكيف يتسنّى لها التجديد أو الخروج على التقليد؟!)، لكنّ الأستاذ الحجّاج، يُغفل ذلك ليقول “خرجت على عمود الشعر ربّما بصورة مزاجية وليست فكرية”. ولعمرك شاعرَنا، أنْ تنقلبَ نازك الملائكة على العمود مزاجاً، وعفوياً، ومن دون تخطيط، ذلك أبلغ في الأهمية، إذ يعني أن شاعريتها، وروحها، وذائقتها الأدبية قادتها إلى الإفلات من تقليدية “شكل القصيدة” في موروث بنائها الهندسي إلى مناخ آخر معماراً، ولغةً، وإيقاعاً، ومنذ ذلك التاريخ، حتى قصيدة الحجاج “جنوبيون” لم يتغيّر شيء كثيرٌ، كانت فعلتْهُ الملائكة أو فعلهُ السيّاب.

      أما بصدد أنّها انحازت، أو مالت إلى “أدباء إسلاميين، وقوميين، وبعثيين معادين للثورة وللجمهورية الناشئة، وأنها مالت الى مصر وعبد الناصر أكثر من ميلها إلى وطنها”.. فلا عتبَ على مَنْ ينشأ في بيئة دينية أن يميل إلى الإسلاميين، بل ذلك تُمليهِ عليهِ أو على غيرهِ البيئة التي ينشأ فيها ويتعلّم أبجديّة ميله الثقافي فيها، لكنّكَ -أستاذنا الحجّاج- قلتَ أنها مالت للقوميين، وهذا بحدّ ذاته تطوّر نوعي “أي أنها أفلتت” من فلكٍ لتكون في فلكٍ آخر ثم أنها اختارت “عروبة” عبد الناصر على “وطنية” عبد الكريم قاسم، ربّما هرباً مما سُمّي حينئذٍ “المدّ الشيوعي” الذي لا ينسجم مع ميلها الديني، أما انحيازها للبعثيين، فدنيا العراق كلها تقريباً انحازت للبعثيين زمن حكمي البكر وصدام، كما انحازت الدنيا نفسها للشيوعيين زمن حكم قاسم، ثم بشيء أخفَ زمن عارف الأول “عبد السلام”، فأخفَّ، أخفَّ، أخفَّ زمن عارف الثاني “عبد الرحمن”، ذلك الرجل الذي كان بمواصفات “ملكٍ من الملوك”، ففرّط به البعثيون، والشيوعيون، والإسلاميون، تحت بند تُهمة واهية، وهي أنّه “ضعيف”، فما أسهلَ، وما أرخصَ سوق تلك التُهم البائخة!!.

      خلاصة الكلام، نحن رأينا شعراءَ كثيرين، ومنهم الشاعر كاظم الحجاج في مرابد البعثيين لسنين طوالٍ، فهل يعني ذلك أنّه أو أنّهم مالوا للبعث والقومية، فكفروا بدينهم، أو بشيوعيتهم، أو بإسلاميتهم؟!. ألم يقرأ مثلاً، الشاعر الشعبي الكبير “عريان السيّد خلف” أمام الرئيس صدام حسين، ومثلُه قرأ  كثيرون، أو كتبوا، فهل كفروا بعقائدهم أو بمعتقادتهم؟.. طبعاً لا هم شعراء، صحفيون، كتّاب، حالُهم حالُ غيرهم ممّن يعيشون في بلدهم، فيمارسون عملهم وحياتهم كما يريدون، ولو هاجروا، أو انكفأوا في بيوتهم، أو عارضوا علناً أو سرّاُ، فذلك أيضاً أمرٌ معهودٌ في مجتمعات العالم بأسره!!.

      ما لك يا أستاذنا الحجّاج تأخذ على نازك الملائكة، انحدارَها الطبقي الأرستقراطي الذي لم تكن مسؤولة عنه، وتنبزُها بميلها الديني، وأنت نفسك، طبقاً لموسوعة ويكيبيديا “تحمل بكالوريوس شريعة وآداب من كلية الشريعة جامعة بغداد 1967″، أي أنّ دراستك تحديداً في الدين واللغة، والدراسة فيهما شرفٌ وكرامة. ومع هذا نقول: ربّما لم يؤهلك معدّلك الدراسي لغير هذه الكلية، أو لأنّك اخترتها “ميلاً” بحافز ملكَتِك الشعرية؟!.   

     لمَ لا تنظر إلى نازك الملائكة على أنّها “أكثر تقدميّة” من غيرها، أعني الكثيرات والكثيرين جداً، فهي “امرأة عتيقة”، ولدت سنة 1923، لكنّها تحدّت “عتاقتها” وأرستقراطيتها، لتتخرّج سنة 1944 في دار المعلمين العالية ببغداد، فرع اللغة العربية، وتمرّدت أيضاً على قيودِ بيئتها الدينية النجفية، لتكتب الشعر،  ثم واصلت تغيّراتها الاعتقادية لتنتقل من المحلية والوطنية الى القومية، فهي إذن “عروبية” في مقاصدها النبيلة، وليست عميلة لعبد الناصر مثلاً!!!.      

    ولا غرابة في ذلك فأمّها شاعرة، وأبوها كاتب. ثم أنّها عَرفت “التجديد” من فرطِ تكسيرها لمزيد من القيود، فُرضت على الرجال في تلك المرحلة التي عاشت دُجُنّةَ تقليديتَها، فكيف بما فرض على النساء من قيود، لتثور عليها فتدرس الموسيقى في معهد الفنون الجميلة الذي نالت شهادته سنة 1949، ثم في عام 1959، حصلت على شهادة ماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكنسن-ماديسون في أميركا. أي أنها اطلعت على الأدب الانكليزي ومنه الشعر بخاصة!. ثم درّست في جامعات بغداد والبصرة والكويت، وعاشت في القاهرة منذ سنة 1990 في عزلة اختيارية، حتى وفاتها رحمها الله في العشرين من حزيران سنة 2007، ودُفنت في مقبرة خاصة بالعائلة “غرب القاهرة”.  

    ونازك الملائكة أوّل من كتب الشعر الحر سنة 1947، والكثيرون يعدّون قصيدتها “الكوليرا” من أوائل ما كُتب في الشعر الحر، وربما جاءت كتابتها متزامنة مع خروج الشاعر الكبير بدر شاكر السياب على سياق وحدة الوزن والقافية، زامَنَهُما في ذلك الشاعران شاذل طاقه، وعبد الوهاب البياتي. وهؤلاء جميعاً عُرفوا بأنهم من روّد الشعر الحر أو الحديث، ولعل “بلند الحيدري” منهم أيضاً.  

             أول دواوينها “عاشقة الليل” سنة 1947، نشر ببغداد، ثم شظايا ورماد سنة 1949، بعدها تتالت دواوينها، إلى أن أصدرت آخر أعمالها الأدبية “الشمس التي وراء القمة” وهي مجموعة قصصية صدرت عام (1997) في القاهرة.      رحم الله الملائكة، والعمر المديد للحجاج، والسلام على من تحدّث بتوءدة عن الناس، ومعتقداتهم، وانتماءاتهم..إنّ المهم في النتيجة النهائية، عطاؤهم الفكري، والثقافي، أو منجزهم الإنساني تعلّماً وتعليماً وإبداعاً، فكلُّ ما ينفع الناس يمكثُ في الأرض، أما الزبدُ فيذهبُ جفاءً!.    

مقالات ذات صلة