أدب

لماذا  “أفضلية” الشاعر الكبير حميد سعيد في نيل جائزة “البابطين” ؟!

      منذُ منتصفِ الستيناتِ، وتحديداً في مجلّة “الكلمة” التي أصدرها الكاتب الأديب حميد المطبعي رحمه الله، ونحن نقرأ للشاعر الكبير حميد سعيد، قصائدَ تُبهرُنا بحداثتها، واجتهادها الفكريّ والأسلوبيّ، حتى لكأنّه، ومن بدءِ تجربته الشعرية، برزَ ناضجَ المعرفةِ، في تجليّاتٍ ثقافية، وسياسية، و”وجودية”، إنْ بلغتِ عبارتي مقصدَها. 

   (بعدَ أنْ نفدَتْ “خمرتي

  واستباحَ الخليّون أسرارَها والخُمارْ

  وانتبذت مكاناً.. قصيّاً.. قصيّاً .. قصيّاً

  وصار الرمادُ أخي..

  والنديمُ الغبارْ)…

     ثمّة ملامح أساسية، في شعر حميد سعيد، مَنَحَتْهُ منذ دواوينه: “شواطئ لم تعرف الدفء..1968″، و”لغة الأبراج الطينية 1970″، و”قراءة ثامنة 1972”.. “ريادة شعرية” في جانبين، لمْ يشاركه فيهما، مجايلوه من شعراء الحداثة في العراق، أو في الوطن العربي، أحدهما أنّه “انفتح” على الحداثة، بمعمارية متّسقة الأداء، قديمها في مطلع ثلاثينيات عمره، كجديدها في ثمانينياته، إلّا أنّ هذا “الانفتاح” على الحداثة، لم يكن مقترناً بأية قطيعة مع “التراث”، ولعل ما انفردَ به شعرُ حميد سعيد -إلى جانب ذلك- أنّ “تجريبه الحداثي”، لم ينفصل أيضاً عن “الإيقاع الكلاسيكي“!.

   (يا أنتِ يا منْ كنتِ مملكتي وكنتِ مليكتي.. اقتربي.

  عسى أنْ تنقلي وجعي إلى شوكِ الفيافي

  كنتُ انتظرتكِ في مسرّاتِ الكتابةِ.

  في قراءاتي. وفي ألقِ اعترافاتي)…

     إنّه –وإلى الآن- برغم ريادية حداثتهِ، وتجديده، واجتهاديته في اللغة، والصورة، والمنحى الأدائي في بنية “الجملة الشعرية”، لم يهجُر “أوزان الخليل” كلياً، لكنّه أضفى عليها “جَرْساً” إيقاعياً حديثاً يشبه تماماً “النقشَ” على الرقُم الطينية، أو الحفر على الصخر، إذ مثلما صرنا نتعرَّف بيُسر على لغة “السياب”، “البياتي”، “قبّاني”، “درويش”، بتنا أيضاً نكتشف من دون عناء، لغة حميد سعيد، فهي ذات “بصمة” أو “لهجة شعرية”، تتقنُ فنَّ استدعاء “الأساطير”، و”معطيات التراث”، وإعادة توظيفها، لتتجلّى، في صور معاصرة، وبلغة تكثيفية، باذخة الجمال، في تواثبها الشعري، وتدفّقها الإبداعي!.

       كُنّا منذ الثمانينات ، ثم التسعينات، نضربُ المثل “سرّاً” في الشاعر “حميد سعيد”، الذي لم يكتب “شعراً خطابياً في مديح الرئيس”، ولم نهتدِ لسببٍ، سوى “إخلاصهِ لشاعريتهِ”، إنّه لا يجنحُ إلى “المباشرة”،وينفرُ بقدر كبير من جنوح “الرمز” إلى التعمية. إنَّ لغتَهُ المشحونة بدلالات تراثية، مُشتغَلة أيضاً، بإيقاع “حداثي”، شديدِ المهارةِ في مجازياتِه!.

  (تَتَعلّمُ الأنهارُ من لألاءِ فِضَّتِها..

  وتصهُلُ في مواسِمها الخيولْ

  حُلُمٌ جميلٌ..

  تلكَ أبوابٌ ثمانيةٌ.. تَزاحَمُ عندَ سدرتِها الفصولْ

  من أيَ بابٍ..

  تَخرجُ الدُنيا.. وتَدخُلُ كلُّ أغنيةٍ بَتولْ)

   من أهم “آلاء شِعرية” حميد سعيد، في عقدين أمضاهما في “المنفى”، فارِقَتانِ: “حضورُ الوطن”، و”البعد الإنساني”. إنَّ حنينه إلى بغداد، ذو منحى يجتذبُه إلى طفولته في غيرها أيضاً، وإلى ماضٍ يستعيدُه “لا جغرافياً”، إنما في بعديه الوجداني والحضاري.    

  (كان يُراقِبُها..

  وهي تُحرِّكُ جمرَ الأرجيلةِ..

  هل هي؟

  أم تلكَ امرأةٌ تشبهها..

    ******

  وغادَرَت المقهى..

  فتذكَّرَ خفقَ عباءتِها..

  ابتعدَتْ..

  ******

 شخنا.. وتغيَّرت الدنيا

إلا خفق عباءتها.. ظَلَ كما كانْ)

    إنّ الملفت في النسق الشعري لحميد سعيد، انشغاله “الروحي” أو لأقل “الفلسفي”، بالزمن وبالذاكرة، إنهما يرفدان نصوصه الشعرية، بألقٍ لا أسمّيه سايكولوجياً، بل هو باراسايكولوجي، أو “حَدْسي”، استبصاري، وتلك خصيصة، يشاركه شعراء كثيرون فيها، إلا أنّه، يظلُّ، يباغتهم، جوهراً بأسئلة الوجود، والحرية، مثلما يُدهشم شكلاً، بنصوصه الشعرية التي تنسجُ نفسها “قصيدة تفعيلة” لكنها لا تخلو مما يمكن أنْ أسمّيه “النثر المغنّى”، أو “النثر الإيقاعي”.. أو كما يسمّيه النقاد “الموسيقى الداخلية“. 

     بقي أنْ أقول، وبثقة: إنّ الشاعر الكبير حميد سعيد، سيكون “أفضل المرشَّحين” لجائزة “البابطين” للإبداع الشعري. وأجدُ نفسي، متحمّساً –شأني شأن كثيرين من الكتاب والأدباء والشعراء والنقاد والصحفيين- في دعم حملة فوزهِ بهذه الجائزة العربية، التي “دأبت منذ تأسيسها على دعم الشعر العربي من خلال جوائز رصينة تُؤْمِن بالكفاءة وتكافئ التميز”، حسب تقرير نشرته صحيفة الشرق الأوسط، الذي ذكر أنّ مؤسسة البابطين حدّدت يوم 31 يناير (كانون الثاني) 2026، كآخر موعد لتلقي طلبات الترشّح، مشدّدة على أنّ الجائزة مفتوحة أمام الشعراء والنقاد من مختلف الأقطار العربية.    

         وبعدُ: نقول لشاعرنا الكبير “أبي بادية”، إنّ حداثة قصيدتك العربية، ونبضَ جِدتها، و”أنَفَتَها” المتعاليةَ على “الخطابية”، و”الاجترار”، و “فوضى الخيال”و “ارتباك النص”، و”انحرافات اللغة”، و”بؤس الأداء”، ثم استمراريتكَ الشعرية لنحو ستةِ عقود، كلُّها تمنحنا الثقة، باستحقاقِك!.

مقالات ذات صلة