إدارة الدولة لأجهزة الإعلام في النظام الملكي


يقع العديد من الصحفيين والمُهتمّين بتاريخ الصحافة في العراق في خطأ تاريخي حين ينسبون قرار إنشاء أول وزارة للاعلام الى حكومة ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 .
والحقيقة، هي غير ذلك تماماً، لأن أول وزارة مختصة بالإعلام كانت خلال النظام الملكي وقبل سبعة شهور من قيام النظام الجمهوري ، فقد اعترف الملك فيصل الثاني في خطاب العرش عند افتتاحه الجلسة الأولى لمجلس النواب يوم 1 كانون الأول 1957، بأثر الإعلام ( الفعّال في الداخل والخارج)، وقال إن الحكومة قد قررت إنشاء ( وزارة للإرشاد والأنباء تُبنى على أسس عصرية) .

وبعد حين ، وعقب مداولات شارك فيها بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية ( الأمن العامة) ، والزعيم محسن محمد علي مدير الدعاية بوزارة الداخلية. ونتيجة لما سبَّبته أجهزة الدعاية المصرية خلال حرب السويس 1956 من صداع للنظام الملكي العراقي آنذاك، أصبحت دوافع الحكومة واضحة لإنشاء وزارة الأنباء والتوجيه، التي أعلن عنها في 17 نيسان 1958 في حكومة نوري السعيد الرابعة عشرة، وهي الحكومة الأخيرة له ، وأسندها الى الوزير برهان الدين باش أعيان.
ومن المستغرب أن نوري السعيد الذي قضى حياته في رحلات خارجية وشاهد أهمية الصحافة في بريطانيا وأمريكا والدول الأوروبية عموماً ، كان متأخراً جداً في الاعتراف بضرورة تطوير علاقة الدولة بأجهزة الإعلام، وهو عراّب السياسة الحكومية طيلة سنيّ العهد الملكي.
وللتذكير خلال هذه الفترة في الصراع الإعلامي العراقي المصري ارتأت الحكومة العراقية إنشاء الإذاعات السرية ضد مصر، واستنسخت التجربة المصرية بإنشاء وكالة انباء حكومية مماثلة لوكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية.
وبهذا التوزير يكون برهان الدين باش أعيان ، أول وزير للإعلام في تاريخ العراق ، وقد احتفظ بمنصبه في الحكومة التالية برئاسة أحمد مختار بابان، وأصبح السعيد في اليوم نفسه ، 19 مايس 1958 رئيساً للحكومة الاتحادية بين العراق والأردن.

وعندما تولى أحمد مختار بابان مهام رئاسة الحكومة في مايس 1958 بدأ اهتمام الدولة بأجهزة الإعلام والدعاية ، بشكل أكثر جدية ، حيث بدأت تسمح بنقل مناقشات مجلس النواب نقلاً إذاعياً مباشراً ، وقررت وقف الحملات الإذاعية ضد الجمهورية العربية المتحدة ، لكن وزير الأنباء والتوجيه برهان الدين باش أعيان وقع ضحية مراكز القوى التي كانت أكثر نفوذاً منه، فاحتجَّ الزعيم محسن محمد علي ،الذي أصبح يشغل منصب مدير التوجه العام ، على قرار وزيره بوقف تلك الحملات الإذاعية، متذرعاً بأن ( البلد معرَّض لحملة ظالمة من الإذاعات والصحف العربية).
ولكن هذا الاختلاف في التعامل مع الإعلام لم يدم طويلاً ، فبعد أربعة أسابيع داهمت الجميع ثورة 14 تموز 1958 وأطاحت بالنظام الملكي كله.
وكانت الدعاية ، وهي الاسم الشائع للإعلام منذ قيام الدولة العراقية عام 1921 تحت سلطة وزير الداخلية حصراً من خلال مكتب المطبوعات، أحد دوائر وزارته كما ورثته من الدولة العثمانية، وعلى الخصوص خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يخاف من الصحافة.

وعندما أنشأت الإذاعة العراقية عام 1936 أصبح هذا المكتب يسمى مديرية الدعاية والإذاعة وبقي مرتبطاً بوزير الداخلية، وتولّاها في فترات مختلفة شخصيات سياسية وصحفية معروفة أولهم إبراهيم حلمي العمر، وحسين جميل ، وسلمان الصفواني ،ومحمد صديق شنشل، وضباطاً من الجيش في فترات الأزمات الداخلية.
وظلت هذه المديرية ، الجهة المسؤولة في العراق عن شؤون المطبوعات والصحافة لفترة طويلة وحتى عام 1953 عندما أدخلت حكومة الدكتور فاضل الجمالي تغييراً جوهرياً عليها بنقلها من مسؤولية وزير الداخلية وربطها مباشرة بمجلس الوزراء ووضعتها تحت مسؤولية وزير الدولة للدعاية الصحفي رفائيل بطي.
وبالرغم من هذا التغيير، بقي وزير الداخلية في حكومة الجمالي ، سعيد قزاز صاحب الرأي والقرار في ادارة الصحافة .وبعد ان ترك الجمالي الحكومة ، أعادت الحكومة التالية التي ترأسها أرشد العمري شؤون الدعاية والإذاعة الى مسؤولية وزير الداخلية وبإشراف ضابط من الجيش هو الزعيم محسن محمد علي ، الذي أدار الدعاية خلال الفترة الأولى لحلف بغداد.
ووجدت الحكومة العراقية نفسها محاصرة عربياً نتيجة الكم الهائل من الدعاية التي تبثها أجهزة الإعلام المصرية ، وخصوصاً إذاعة صوت العرب، ولعب الزعيم محسن محمد علي دوراً رئيساً في الترويج لحلف بغداد ، ونظم حملات دعائية ضد الرئيس المصري جمال عبد الناصر ودولة الوحدة، حتى أنه كان على خلاف مع وزير الأنباء والتوجيه برهان الدين باش أعيان لأنه يتلقى توجيهاته مباشرة من رئيس الحكومة نوري السعيد وليس من الوزير .

اشتغل الزعيم محسن في البداية رئيساً للبعثة العسكرية العراقية لدى جامعة الدول العربية بالقاهرة، وعند عودته الى بغداد نقل من وزارة الدفاع ليصبح آمراً للحرس الملكي ومنها الى وظيفة المدير العام للتوجيه والإذاعة دون أنْ تكون له أية خبرة سابقة في هذا الميدان، ويتدخل في جميع شؤون الدعاية والرقابة على الصحفيين وغيرهم من السياسيين، واستحدث برنامجين في إذاعة بغداد بعنوان ( أخي في سوريا ) و(أخي في مصر) وأوكل إدارتهما للسوري عصام مريود والمصري سعيد لطفي ، وبسط نفوذه على نطاق واسع من النشاطات الإعلامية للحكومة والى خارج العراق ، وخصص موجة خاصة للإذاعة مهمتها مهاجمة مصر وسوريا فقط، وفقاً لما نصت عليه إجراءات محاكمته امام المحكمة العسكرية الخاصة بعد قيام النظام الجمهوري.
وفي مذكرة رسمية له موجهة الى الوزير برهان الدين باش أعيان ، يحدد مدير الأنباء والتوجيه وبأسلوب ركيك لغوياً، 12 نقطة للتعامل مع الأحداث من ناحية الدعاية لمواجهة الحملة الدعائية المصرية ، نختار منها في هذا المجال ، ما يلي:
( 3 – منذ أن توليت هذه المديرية قمنا بتنظيم تعليق بسيط واحد، تعليق دفاع وإبداء وجهة نظر تجاه حملات مركزة ظالمة كاذبة ، ولم تُؤَازر هذه المديرية لا من قبل الصحف ولا من قبل شخصيات بارزة بهذا التعليق الدفاعي تجاه حملات مستمرة ليل نهار لا تقل عن أربع تعليقات من القاهرة وصوت العرب دع عنك الشام ، وفي الآونة الأخيرة صار سب العراق يدخل في كافة المناهج المسلية والروايات التمثيلية، وعلاوة على ذلك كله فإن صحف مصر وسوريا والصحف المأجورة في كل مكان تعزز هذه الحملة الظالمة على أوسع قياس عرف في تاريخ الصحافة ، وفوق كل ذلك المناشير والكتب والتصاوير وحتى المحابس والقلادات وسلاسل المفاتيح تستهدف تحطيم هذا البلد يقابلها كلها بتعليق إذاعي منفرد كأننا يتامى في هذا البلد ).
ويتذمر مدير الأنباء والتوجيه كثيراً في مذكرته من الحالة المزرية التي كانت عليها أجهزة دعاية الحكومة وفشلها في مواجهة الحملات العربية من مصر وسوريا والاتحاد السوفيتي وغيرها ، لكنه لم يقدم في مذكرته حلولأ لها ، وأتضح فيما بعد خلال محاكمة الزعيم محسن، أن نوري السعيد هو من أملاها عليه، ولم يتخذ أي إجراء رسمي بشأنها، أي أنها أهملت لأسباب غير معروفة.

ولكن الزعيم محسن لم يكتف بمكاتباته الى وزيره المباشر، بل كان يرسل مذكرات رسمية الى وزير الداخلية يستعديه على بعض الشخصيات العراقية التي تتحدث للإذاعات والصحف المصرية، فكتب في آذار 1958 مذكرة ضد محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال المنحل ويرفق معها نص تصريحه لإذاعة القاهرة ويصفه بالاستهتار وعدم الشعور بالمسؤولية، ويطلب من وزير الداخلية اتخاذ الإجراءات ضده لأنه أرسل تصريحه الى القاهرة عبر السفارة المصرية.
ويتهم مدير الأنباء والتوجيه في مذكرة سرية أخرى، تلاعب الصحافة العراقية على الأخبار ، ويتهم الصحفيين وعمال المطابع بأنهم من المعارضة ، ويقترح (منح إجازات لأربع صحف جيدة، وسد الصحف الصادرة في الوقت الحاضر والتي أصبحت بؤرة لا يمكن توجيهها وستبقى تسبب المتاعب لنا) ، وتنظيم (الدعاية الإيجابية في لبنان والاتصال مع الحكومة اللبنانية ، وبالسلطات المختصة في الكويت والمملكة العربية السعودية والبحرين ، وتنظيم مكتب خاص للدعاية ضد العهد القائم في سوريا ومصر منفصلاً عن دار الإذاعة وإفراز موجة قصيرة لهذا الغرض) .
ويبدو ان الوزير برهان الدين باش أعيان لم يكن يهتم بالدعاية الخارجية كثيراً ويرى في عملها داخلي فقط ، وكان نوري السعيد والبلاط الملكي يضغطان ويتدخلان حتى في الشؤون الفنية للإذاعة ويأتي السعيد الى الإذاعة شخصياً ويملي على المدير العام ما يريده أن يكون تعليقاً حتى إبّان عهد حكومة أحمد مختار بابان حينما كان السعيد رئيساً للحكومة الاتحادية بين العراق والأردن.
وبعد قيام النظام الجمهوري اتهمت المحكمة العسكرية الخاصة ، وكما ورد في الصفحات من 621 -721 من الجزء الثاني لمحاضر المحكمة التي اصدرتها وزارة الدفاع عام 1958،، الزعيم محسن محمد علي بتبديد مائة ألف دينار عراقي لشراء أجهزة تشويش على إذاعات صوت العرب والقاهرة ودمشق ، وتهمة احتفاظه بمصروفات سرية قدرها 12 ألف دينار عراقي للصرف على شؤون الدعاية إضافة لمصروفات لجان حلف بغداد ، ومنها ( لجنة النشاط الهدام) التي ترأسها مدير الأمن العام بهجت العطية، ومولت البرنامج الإذاعي (العراق في انتقال).

ومع أن شؤون الدعاية والإذاعة هي من اختصاص مديرها العام محسن محمد علي، إلا أننا نجد جهات رسمية أخرى تدلو بدلوها في حالة الدعاية العراقية، وهو ما حصل مع مدير الأمن العام بهجت العطية الذي كتب الى وزير الداخلية تقريرا يشكو فيه بشدة من ضعف الدعاية العراقية ، ويقول:
( سيدي صاحب المعالي:
لاشك في أن التأثير الكبير الذي نلاحظه على الشعب من اندفاعه عن الرئيس جمال عبد الناصر راجع الى أساليبه في الدعاية وقوة التهريج الذي يتبعه المختصون لديه ، يقابله الضعف الملحوظ عندنا مما أصبحت الفرصة مواتية للمصريين، فهم يستخدمون مختلف الوسائل والسبل والأشخاص في سبيل جلب عطف الشعوب العربية إليهم، ولذلك فقد جئت بهذا التقرير مقترحاً القيام بمشروع أعتقد جازماً بأثره وفائدته في الحد من الدعايات المصرية والوقوف ضدها بشكل مجدي ومفيد. مع العلم بأني أرى محاربة الدعايات المصرية بالأسلوب الذي تتبعه الإذاعة العراقية الآن خاطئ ويؤدي إلى عكس فوائده ، ونحن في عصر أصبح فيه من الضروري أن ترد الفكرة بالفكرة وأن يحارب التهريج بتهريج أشد منه . ولا ضرر علينا إذ فعلنا ذلك ما داموا هم قد نجحوا هذا النجاح الباهر في تهريجهم. إني أقترح أن تؤلف لجنة لا يقل أعضاؤها عن عشرة أشخاص من الكتاب والصحفيين الأكفاء يجتمعون كل يوم في الأسبوع ثلاث أو أربع مرات في مديرية التوجيه والإذاعة العامة سراً وتعطى لهم كافة الصلاحيات الأدبية والمالية أو على الأقل يرفعون اقتراحاتهم إلى مديرية التوجيه والإذاعة العامة فتقبل.
سيدي:
إن الطلب من الصحف المحلية أن تكتب وتناقش عبث في عبث، كما أن إرسال التعليقات المتشابهة إليهم ينشرونها خطأ ملحوظ، إذا لابد من أن تكون الكتابات مختلفة عن بعضها وأن توجه الصحف بأخبارها وتبويبها بالشكل الفني الحديث، فلا يدرك الناس أن الصحف مدفوعة إلى ما تكتب أو أنها متشابهة فيما تكتب. ولذلك فإن مهمة هذه اللجنة أن تكتب المقالات وتصوغ الأخبار وتسخر الرسائل لتوجيه الناس نحو أهداف العراق ومصالحه بشكل لا يمس دعايات عبد الناصر ولا إذاعاته ولا جمهوريته، طبيعي أن كل واحد من أعضاء اللجنة سيكتب ما لا يتفق وما يكتب الآخر وترسل هذه المقالات إلى الصحف وتنشرها وكأنها صادرة عنها.
سيدي:
إن أسطورة الحرية الصحفية وعدم التدخل في شؤون الصحف قد أصبحت بالية لأن القضية الآن أخطر من أن يسكت عليها).
ثم يقترح مدير الأمن العام في مذكرته أسماء عشرة أشخاص من المحررين المحترفين في صحف (الأخبار)و(الحوادث) و(الشعب) وثلاثة من موظفي مديرية التوجيه والإذاعة العامة وواحد من وزارة الداخلية، لكنه لم يقترح أي صحفي آخر من صحف ( البلاد) و(الحرية) و(اليقظة) و(الزمان)، وكل من اقترحه كان صحفياً منذ وقت طويل وبقي صحفياً بعد ذلك التاريخ وترد أسماؤهم في وثيقة منشورة في محاضر المحكمة.

ويبدو أن هذا الاقتراح لم ير النور لأن بهجت العطية أبقاه لديه ولم يرسله إلى الوزير ، ولاحقاً عثرت عليه سلطات الجمهورية في مكتبه واستخدمته مع الأدلة الأخرى ضده خلال محاكمته بعد قيام النظام الجمهوري، وكان مع القلائل من رجال العهد الملكي الذي تم إعدامهم .
ويشتكي بهجت العطية في تقرير سري له كشفت عنه النقاب سلطات النظام الجمهوري ، ممّا كانت إذاعات صوت العرب والقاهرة ودمشق وموسكو تذيعه ضد حلف بغداد والاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، وما لهذه الإذاعات من تأثير على الوضع السياسي الداخلي في العراق ، ويقول( لا يستمع المواطنون لإذاعة بغداد، وحتى إذا سمعوها فإنهم يقابلون ما يسمعونه بالفتور والتشكك ) ويلوم ضعف جهاز الدعاية الحكومي ( لأن مختلف الطبقات الشعبية لا تراه مفيداً إذا استمر على أحاديثه الجافة التي يكررها كل يوم بعد نشرة الأخبار) ، ثم يوصي الحكومة ( بنشر تعليقات فيها مادة تهضمها الأسماع وينصت الناس إلى منطقها، والاستفادة من العناصر المثقفة وأساتذة الكليات من الذين سبق لهم وأن درسوا في مصر وفي خارج العراق) .
وللمزيد بهذا الخصوص يمكن مراجعة المصادر التالية:
– التقرير السري لمدير الأمن العام بهجت العطية ، العدد 4192 في 14 أيار 1958، منشور نصاً عند، جعفر عباس حميدي، التطورات والاتجاهات السياسية في العراق ، 1953 – 1958 ، جامعة بغداد. 1980 ، ص ص 345 – 348.

– محاضر المحكمة العسكرية العليا الخاصة، الجزء الثامن ، ونص المذكرة في الصفحات 223 – 225.
– التقرير السري لمدير الأمن العام في محاضر المحكمة العسكرية العليا الخاصة ، الجزء الثامن .
وكانت الدولة العراقية قد ثبتت نظام وزارة الارشاد في نظام عملها الرسمي ، وحينها كان كبار موظفي هذه الوزارة هم كما توضح الصورة المرفقة مع هذا المقال.
ويلاحظ أن الدولة لم تكن تعتمد منصب وكيل الوزارة وكان مدير الادارة العام هو الشخص الثاني بعد الوزير.
وقد اعتمد نظام وكيل وزارة لأول مرة في تاريخ العراق في عام 1968 عند تولي البعث السلطة فعينت الشاعر شاذل طاقة وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام ، بينما كان عبد الله سلوم السامرائي وزيراً.
