قصة الحبِّ..السَّجن..اللّجوء..الموت..والأحزان في حياةِ أمٍّ عراقية!!
لأوّل مرّةٍ في سيرةِ حروفي، أحسبُها ترتعشُ، أو تهتزُّ كحبّاتٍ أرزٍ في غِربالٍ أو منخلٍ، ولا تتمالكُ نفسَها، فدموعي التي تتساقطُ على إيقاع ضرباتِ الحروفِ، تذكّرني بـشريط عذابات أمِّ “علي” ابن عديلي صباح عبّاس البندرجي، رحمهما الله. تلك الأمّ التي لم يُقدِّر أحدٌ ممّن حولَها عِظمَ مأساتِها، وما كابدتْ، ككثيرٍ من أمّهاتِ العراق الّلاتي أماتَهنَّ “الثَّكَلُ” قبل الموت!.
وقصة الأحزانِ، بدأتْ تنسجُ خيوطها السُودُ، الكالحةُ، يومَ فقدتْ “الأم الرؤوم” ابنها “عماد”، الشابّ العشرينيّ، جميلَ الوجهِ والطلّةِ، ذا السلوك المهذّب والرصين، وذا “العيون الملوّنة”، كما كانت بناتُ راغبة خاتون تسمّيه رحمه الله. كان “عمادُ”، بعُمْرِ 26 سنة يومَ صُرعَ، وهو جنديٌ منتصف الثمانينيات في حادثِ سيّارةٍ، ، ومنذُئذٍ صِرتُ أرى “أمّه الرؤوم” بذلك الوجهِ النورانيّ، والعينينِ باخضرارِ الزُّمردِ وزرقتِهِ، شائخةَ المُحيّا، والروح..ماتت على شفتيها الابتساماتُ، وظلّت مشدودةً إلى أحزانها وإلى القبور والأضرحة والمزارات، لعلّها “تنفّهُ” عن قلبها المكروبِ، المفجوع، كما كانت تصفُ لي أحزانَها، وتيْهَ حياتها.. أقول: لا يكسِرُ قلبَ الأم إلا فقدُ ابنِها، ولا يسحقُ عنفوانَ الرجل، إلّا موتُ ابنهِ!!.
ومنذ تلك السنة، بدأ “المَقْتَلُ”، أو سلسلةُ الأحزان، فهي بحسْبِ ميثولوجيا العقل الجمعيّ العراقيّ “تجرُّ بعضُها بعضاً”، فما إنْ تزوّج “عليّ”، وصار له “ولدٌ” سمّاهُ “عبّاس” حبّاً في أخيهِ الأكبر اللاجئ إلى بريطانيا، حتى فُجعت “الأمُّ” باثنتين، مقتلُ “الدليمي” ثاني زوجِ لابنتها الكُبىرى، بعد مقتلِ”العاني” زوجِها الأوّلِ، وبإثرِ هذا الحادث وقع “عليّ” رحمه الله في “حَيْصَ بَيْصِ”، التُهمة الجاهزة في عراق “المَراراتِ” لا الطائفيّة، والفساد، والفوضى، واللاعدل، والنهبِ والسلبِ، والمخدرات، والقتل المأجور،و غيرها!!.
فـ”عليّ” الذي خافت عليهِ أمّه كسيرةُ القلبِ، حتى من إكمالِ دراستهِ المتوسّطة، والذي هو تماماً “رِجِل دجاجه مَيحِلْ” في الاعتبارات الشارعية، والجندي المتطوّع في الجيش العراقي، يُسجَنُ، ويُتهم ظلماً بــ”4-إرهاب” معه أنّه مذهبياً شيعيّ، ولا علاقة له البتّةَ، لا بالسياسة ولا بالتشدّد الديني، وما يتصل بهما من خُزَعبلاتٍ!…ولم يُطلق سراحُهُ بعد الحكمِ ببراءتهِ، إلا بـ”طلعانِ” روحِ أمّهِ التي محضتْهُ حبّها كلّه، ومحضَها هو الآخر حبَّهُ دونَ الناس أجمعين. أنا بنفسي دخلتُ “سجنَ المطار”، وعندما جيء بـ”علي” منقاداً بيد شرطيّ، مغطى الرأسِ بكيسِ جُنفاصٍ أو “گونية”، صرختُ بضابط يحمل نجمتين: هذا وهو بريء، فما الذي تفعلونه مع المتّهم، أو مرتكب الجُرم؟!
سمعَ عليّ صوتي، فعرَفهُ، قال: “عمّي أبو سيف”، أمرتُ الشرطيَّ أن يرفعَ عنه غطاء الرأس، وأكملتُ إجراءات تسريحه من السِّجنِ بعد أنْ حاول الضابطُ ابتزازي جزافاً، إذ لم يعترفْ بهُويتي الصحفية، فطلب الجنسية “دفتر النفوس”، الذي استخدمتُ الآيفون للحصول على صورته، ثم أجبرني الضابط “اللامضبوط” على تقديم تعهدٍ بإحضارهِ، إذا استجدّ أمر، وإلا فسيجلبني بدلاً منه، ظنّاً منهُ أنني سأجبُنُ، وأقولُ لنفسي “يا روح ما بعدج روحي”. كانت الدنيا كلُّها بكفّةٍ، وأمّهُ التي هي كُبرى أخواتِ زوجتي، بلْ أمُّهنَّ بفيض حنانِها، بكفّةٍ أخرى. مَهرْتُ توقيعي، فطلبَ بصمتي على التعهد، بصمْتُ، ومضيتُ بعليّ إلى أمّهِ، الذي لم يشأ ونحن نمرُّ بمحلة “الكسرة” أنْ يقف للحظةٍ، كي يتناولَ وجبة طعام جيدة، أعرفُ أنّه حُرِمَ طوالَ شهور سَّجنه، وقال لي بنص كلامهِ “لا عمّي، أريد أشوف أمّي”!!!
ويوم تناهى إليَّ خبرُ رحيلِ “علي”، الّذي فقد الوعي لثالث مرة في أحدِ مستشفياتِ فرنسا التي لجأ إليها، بعد لجوءِ أخته وأيتامها، أدركتُ أنّهُ لم يقوَ على تجاهلِ ما مرَّ به..ظلّت الكآبةُ تكتنفُ حياتَه، لاسيّما بعد أنْ أصيبت زوجتُهُ المسكينةُ بالسرطان.. ماتَ عليّ وسيُدفنُ يومَ الأربعاءِ المقبل، بيدي أخيه “عبّاس” الذي هُرعَ إليه من إقامةِ لجوئه في بريطانيا.
ماتَ “عليّ” بتوقّفِ دِماغِهِ المستنفَدِ بالأحزان، وبفرطِ التدخين، وبتأثيرات كآبة العذاباتِ التي أكلتْ أجملَ سِنيِّ شبابهِ، ماتَ وترك وراءَهُ زوجةً يمتصُّ السرطانُ رحيقَ شبابِها، حُبلى بطفلٍ لم يُكتبْ له أنْ يرى أباه، وثلاثةَ أطفالٍ يعيشون في فرنسا مع ابتلاءاتِهم، وغربَتِهم، وموروثِ العذابات التي كُتِبتْ عليهم في سلسلة “المَقتَل” الذي لا يبدو أنّه ذو نِهاية!!.
فمَنْ أواسي، وعلى مَنْ أحزن، ولِمنْ تنهمرُ الدموعُ؟.. لا ينتابني الآن، إلا شعورٌ واحدٌ، ذلك هو إحساسي بفرط “مأساة الأمّ” التي فُجعت بولدين، وتعيشُ وحيدةً في بيتٍ صغيرٍ إلى جانبِ بيتِ ابن أختِها، بعدَ أنْ هجرَ أولادُها بلدَهم الذي مزّقته الحروب، والعنتريات، والأحقاد، وأطماع السلطة، ومفاسدُ الحكام والسيّاسيين، فإليها “أُمّاً عراقية لم ترتدِ إلا ثوبَ الحزن”، أقول: تلك هيَ قِسمتنا على هذه الأرضِ، نعيشُ أحزانَها، وابتلاءاتها، وإذا كان الموتُ حقّاً، فالحياة أيضاً حقٌّ، نعيشُها، بيقين الإيمان بالله، وبواجبِ التضحية من أجل من نحبُّ، وبشروط التمتّعِ بما لنا من نِعمِها!.
بقي لي مع ذكرى الراحل الشابّ، الابن الحبيب “علي”، أبي عبّاس، وأخي عباس، أنْ أقصّ عليكمْ مشهداً رأيتُه بنفسي، أيام كنتُ في العراق قبل سنوات: كانت “الأمُّ” في بيتي، بيتِ أختها، اتّصل بها ابنُها “عليّ”، تائهاً، خائفاً، وهو أمام برج “ إيڤل” بباريس، قالَ لها “يُمّه إلحگيلي، تِهتُ، ولا أعرفُ طريقي”.. سألتْهَ عن مكانِه فأخبرها، قالتْ له: صفْ لي المكانَ، وَصفَهُ، وبجهازِ استشعارِ عطفها، وحنانها، وخوفها على بِضعةٍ من كبدِها، قالت له: “إمشِ من هذا الطريق”!!، ثم بعد دقائق، قال لها “عَفْيَه يُمّه عرفتُ الآن أينَ أنا”.. بكتْ الأمّ، البسيطة، التي لا تجيد القراءة والكتابة أصلاً، وذُهلتُ أنا من “شفّافية روحِها”، بل من فرطِ إصرارِها على هدايةِ ابنِها طريقَه وهو في فرنسا التي لم تزرها أبداً، والتي قد تزورها يوماً لرؤية قبرِ ابنها، وأيتامَهُ، وابنتَها وأيتامها..تلك هي أحزانُ الأم العراقية، ليلٌ لا فجرَ له، و”مقتلٌ” يتكرّرُ يومياً، لكنَّ الله أرحم الراحمين.
وداعاً “علي” ما أردتُّ لك الوداعا!.. يا بُنيْ ..لك بإذنِ الله جنّاتُ الفردوس، ولأمّك الرَّؤوم، وأخيكَ، وأخواتِك، وجميع محبّيك الصبر والسلوان. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.