قراءة في رسالة لـ(سعدي يوسف): السبيل شاقّة ، وبقدر المشقّة يكون البهاء..



1 –
في منشور سابق، تحدّثت عن أيام “مساطر العمّالة” والوقوف تحت “نصب الحرية” في الباب الشرقي، أو جوار “جدارية فائق حسن” في ساحة الطيران ..
وقصة قصيدتي الأولى، واقتحامي وزارة الإعلام وظروف نشرها في مجلة الأقلام الكبيرة، التي كان يطمح للنشر فيها عتاة الشعراء والكتاب، فكيف بشاعر يأتي بقصيدة هي أولى محاولاته في النشر.. و… تنشر !!
*
الصدى الكبير الذي استقبل به حديث ذكرياتي ذاك، شجعني أنْ أمر ثانية على تلك المرحلة التي كانت من أغنى مراحل حياتي، لكونها شكّلت بدايات وعيي الأدبي، ومنحتني الكثير الكثير من مقوّمات ما يمكن أن أسمّيه بـ”الرجولة الشعرية المبكّرة” وأعطتني كبرياءَها التي – أزعم – أنها ما زالت ترافقني حتى الساعة..
فمن خلالها اهتديت الى أبطال عالمي، ممن سيرافقون قصائدي، وكتاباتي، ويستولون على مدياتها حتى آخر حرف، وأعني بهم “الفقراء“.
أولئك الذين أشرت اليهم في “يوميات فندق ابن الهيثم“
وكيف يغبشون مع أولى قطرات الفجر لأجل رغيفٍ نظيف، ولقمةٍ حلال.. ويعلنون:
(لا أحد يعرف الوطن مثلما نعرفه نحن الفقراء .. فقد بنيناه طابوقة طابوقة .. وعبدّناه شارعا شارعا، وزرعناه نخيلا وحقول حنطة ، كأننا موكلون به من أخمص زقورة بابل، حتى هامة الخط السريع – اليوميات)!!

*
في تلك الفترة، توثّقت علاقتي بشكل رائع مع أصحاب مكتبات شارع السعدون، “بنيان” و” هاشم” ، وأصحاب أكشاك من ضمنهم شاعرة نصف مهووسة بالشعر اسمها (شرقية… الراوي) !!
مثلما توثّقت علاقتي بالجرائد والمجلات التي مقراتها في تلك المنطقة ( ساجدة الموسوي، مجلة المرأة – على ابي نؤاس) و (الطليعة الأدبية، أمجد توفيق – بالقرب من شارع الخيام) و (طريق الشعب، يوسف الصائغ/ وسعدي يوسف- الفكر الجديد) بالقرب من سينما بابل.

*
في الأيام التي لا أصادف فيها “مقاولا” يكتري ذراعيّ كـ”عامل بناء” او يتأجّل موعد عمل عندنا، أمرّ على جريدة “طريق الشعب” ، أسأل عن رشدي العامل، فتجيبني الفتاة التي تجلس بالاستعلامات وأظنّ إسمها ” فاطمة ” بأنه ذهب الى المطبعة، في بارك السعدون،
أسأل عن يوسف الصائغ، فتدعوني لأجلس ريثما أشرب الشاي، أمّا سعدي فتقول ..خرج الى مجلة “التراث الشعبي” والتي لا يبعد مكانها كثيراً عن الجريدة، فهي بالقرب من ” ساحة كهرمانة “..
فأذهب اليه، لتصبح غرفة “سكرتير التحرير” قبلة زياراتي كلما غافلتُ “ساحة تحرير العمّالة” أو تجاوزني مقاولو حَمَامَات ” فائق حسن “.
*
2-
*
كان سعدي يومها قد عاد من الجزائر، ومعه أصداء ديوانه الكبير “نهايات الشمال الافريقي” الذي صارت إحدى قصائده نشيدا لنا نحن الشعراء التوّاقون الى المجهول، وأسرى الداخل:
(ما الذي قد صنعت بنفسك / كانت بلاد الجزائر واسعة مثل افريقيا/ كان في كل مزرعة غابة مثل افريقيا/ كان في كل مفترق نخلة مثل افريقيا ).
*
وشهادة للتاريخ، ولتاريخي الشخصي، لا أعتقد أن هناك شاعراً قد ترك بصماته على روحي، مثلما فعل سعدي في البدايات..
فهذا الشاعر الذي كان يشكّل علامة في الشعرية العراقية والعربية، يتفرّغ لشاب يأتيه بملابس لا تصلح الا للـ”مساطر”، وفي يده خرابيش يسمّيها قصائده، فيجالسه أبو حيدر، ويبدي ملاحظاته التي غالباً لا يأخذ بها هذا الوكيح المقتحم . ( نفس المشكلة عاناها معي بعض من أعزّ اصدقائي : الدكتور عبد الرضا علي، الدكتور حاتم الصكر، والدكتور حامد الراوي، كانوا يقولون لي انتبه لهذه أو تلك، ويستدركون : نعرفك لا تفعل ذلك، فلا عليك ) !!

*
سعدي.. الذي كان مدوّخ الشعراء والنقاد بمنجزه، يناقشني – انا – حول ما أُطلعه عليه، ويتحمّل جرأة عدم اقتناعي بملاحظاته، بل وتبلغ بي جرأتي أنْ اترك بين يديه ما أسمّيه ديواني الأول ” الفقراء في القلب “، وأنسحب على أن اعود لأناقش ملاحظاته عنه.
*
الأخضر بن يوسف، بدأت قصائده، وحضوره، وانتماء الشباب اليه تقلق المسؤولين، فحدث ما كان يتوقعه، ونتوقعه نحن ..
ولا أدري كم هي المدّة التي انقطعت بها عن زيارته، بسبب العمل ( أحيانا أذهب للمحافظات)، لكنني حين مررت بالمجلة، قال لي الرجل الذي يقدم الخدمات للضيوف : عمّي .. صاحبك نقلوه لـ”وزارة الري“!!
.
ولا أحد يعرف – ربّما الى الآن – ما علاقة “الشاعر” بـ”الري”، ومع ذلك فسعدي المتمرّد، روّض مكان وظيفته الجديدة، وكتب واحدة من أجمل قصائده :
(ينام النهر في مكتبة الري)، لكونه قد نُسّبَ الى “المكتبة” في الوزارة.
قبل أنْ يغادر العراق نهائيا بعد ذلك..
**
أبو حيدر، وهو وسط معمعمة النقل، وجمع الأوراق، والمتعلقات لم ينس صديقه الشاعر المبتدئ ، فترك لي مظروفا وجدت بداخله رسالة مكتوبة على آلة طابعة، ( فقط رأيت من يكتب رسائله على هذه الطريقة، هو السارد الخطير عبد الستار ناصر) ..
*
هذه الرسالة احتفظت بها لأكثر من 40 عاما، وإعتمدت ما جاء فيها بما يشبه “الدستور الشعري” وقمت باستنساخها – قولا – لمن يقصدني من الشعراء الشباب،
ها أنا أعود الى قراءتها اليوم، باعتزاز، وإكبار فهي (رسالة من سعدي يوسف)
*
3
*
قراءة في رسالته ..

:
(..لا أريد أن أحمّل الصوت المبكّر أعباء تفحّص الأصابع ذات التمرّس الذي قد يبدو مغاليا في التدقيق ..).
في هذا السطر من الرسالة يوضح الأخضر بن يوسف طريقته في التعامل مع الشعراء الشباب، الذين يجد فيهم “مادة خامة ” تنبئ بشاعر قادم .
فثمّة :
1- صوت مبكّر يجب ألا يحمّل ..
2- تفحصّه بالأصابع ذات التمرّس ..
3- المغالاة في التدقيق!!
هذه الثيمة الأولية التي وضعها سعدي في أول رسالته، هي التي باعتقادي يجب أن تكون منهجا لمن يتصدّى للتجارب الشابّة الواعدة بالجديد..
*
.. وفي السطر التالي من رسالته، يتواضع حدّ أنْ يتعاظم، لأنّه يمنحني شعور أننا نقف على أرض واحدة، وربما لا فرق بيننا سوى العمر والتجربة، وهو سعدي، وأنا حطّاب البدايات، فيقول:
(وبالمناسبة.. لماذا اهتمامك بما تريد أن أقول)؟.
ويعود لتأكيد هذا الشعور بداخلي حين يضيف:
(السبيل المثلى فيما اعتدنا عليه :ان اقرأ قصيدة جديدة لك،
وألاحظ بصددها ملحوظات هيّنة، قد نتفق عليها، وقد لا نتفق).
**
الآن ..
وأنا أعود الى زمن لقاءاتي بالأخضر بن يوسف،
أتوقف عند “وكاحتي” وعند ” تسامحه ” !!
هو.. يعطيني ملاحظات حول ما أحمله من خربشات، فيثبّت ملاحظاته عليها، وحين نتناقش حولها، أعلن عن عدم قناعتي بملاحظاته !!
أتذكّر استغراقه بالضحك من شراسة قناعتي، ومن إصراري على إبقاء ما كتبته في النصّ.. !!
*
في الرسالة أيضاً، ما اتخذته – أنا – منهاج عمل، في التعامل مع المجاميع الشعرية التي كانت تصلني او كانت تحال لي لإجازتها، بعد ان أصبحت اسماً، تنبّا به سعدي يوسف نفسه ..
فلا أحمّل النص فوق ما لا يحتمل من تأويل، ولا أتفحّصه من موقع خبرة متقدمة، ولا أتلمّس أغصانه الطريّة بأصابع “الحطاب” التي قد تكسر بعض روائه.
*
يحدّد الأخضر اليوسفي مراحل إخضرار النصوص التي تمر عليه
فيفيدني بها ..
**
في ذهني سلّم اعتدت ان ارى الشعراء الأكثر فتوة يرتقونه:
× انهم اولا يكتبون عما لا يرون ولا يحسّون
× ثم يكتبون عمّا يحسّون، قبل ان تنمو لديهم قدرة ان يروا.
× أحيانا، وفي نماذج نادرة ومتفرقة لديهم، قد ينجحون في عملية تركيب الإحساس والرؤية.. في حالة استمرارهم الجاد.. وقليلا ما يكون هذا .
*
حين أعود للرسالة – الوثيقة، ولأيام صداقتي مع الشاعر العراقي – العربي – العالمي ..
أعود بظهري الى أحضان الكرسي، وأسحب نفسا عميقا ، مسترجعا مقولته الباذخة التي اختتم بها رسالته : يا جواد ..
(السبيل شاقّة ، وبقدر المشقّة يكون البهاء).
*
*
*

الفقراء في القلب
ـــــــــــــــــــــــــــ ..
من غير المغري أن أكتب ملحوظات تتضمّن احكاما عامة عن هذه المجموعة.
كما ان من المبكّر أن آخذ القصائد ككل، مستخلصاً منها نقاط تلمّس دقيقة.
فأنا لا أريد ان أحمّل الصوت المبكّر أعباء تفحّص الأصابع ذات التمرّس الذي قد يبدو مغاليا في التدقيق، أحيانا.
من هنا تجنّبي للحكم العام ، وللتلمّس المدقّق .
*
وبالمناسبة.. لماذا اهتمامك بما تريد أن أقول ؟
*
أعتقد أنّ السبيل المثلى فيما اعتدنا عليه :
أنْ اقرأ قصيدة جديدة لك، وألاحظ بصددها ملحوظات هيّنة
قد نتفق عليها، وقد لا نتفق .
هنا يكون الأمر أكثر يسراً، وحرّية، وتجنّبا للحكم، واحتراماً لصبوة المحاولة البكر.
في ذهني سلّم اعتدت أنْ أرى الشعراء الأكثر فتوة يرتقونه:
× انهم اولاً يكتبون عمّا لا يرون ولا يحسّون،
× ثم يكتبون عمّا يحسّون، قبل ان تنمو لديهم قدرة أنْ يروا.
× أحيانا، وفي نماذج نادرة ومتفرقة لديهم، قد ينجحون في عملية تركيب الإحساس والرؤية.. في حالة استمرارهم الجاد.. وقليلاً ما يكون هذا
ــــــــــــــــــــــ
لكنّ رصدي للشعر الفتي، أقنعني – حتى الآن – أنّ أيا منهم لم يصل، بعد ، الى الكتابة عمّا لم ير ولم يحسّ، بعد أنْ يكون قد تشرّب إحساسا ورؤية ..
وبعد أن توصّل عبر الدأب الى خلق منظومته الخاصّة، ازاء الشعر والحياة .
ــــــــــــــــــــــ
مرّة أخرى أقول : السبيل شاقّة ، وبقدر المشقّة يكون البهاء .
إمضاء
سعدي يوسف
15/ 6 / 1977
*
*
*
