العالم

في فنلندا..حططتُ الرحال ومنها :إلى قصر الملك غوستاف في السويد

     عام 1975 ، لعلّه ، في أحد الأشهر الأخيرة من ذلك العام ، كنتُ في زيارة عمل لجمهورية فنلندا . هناك على تخوم القطب الشمالي ، تقع هذه الجمهورية الوديعة المسالمة . أبرز ما فيها : عاصمتها الجميلة هلسنكي ، وهدوؤها . وزيادة كبيرة في عدد النساء نسبة للرجال ، (يُقال : ثلاثُ نساء ، يقابلهن رجلٌ واحد).

    زرتُ السفارة العراقية في فنلندا ، وكانت تشغل غرفتين في فندق بالعاصمة الفنلندية هلسنكي . قابلتُ السفير العراقي صالح مهدي عماش هناك . ودعاني ، مشكوراً ، لتناول الغداء في بيته ، قائلاً : زوجتي (أم هُدى) وصلتْ من بغداد . ومعاها (بامية) عراقية، اليوم غدانه (بامية وتمن) . صحبتُه لداره ، و(أكلتِ البانيةُ) ؟ ! .

                  نحو السويد..؟ !

     لأكثر من سبب ، قرَّرتُ زيارةَ السويد ، وبالذات عاصمتها (إستوكهولم) . فهناك عطلة نهاية الاسبوع (ومدتها يومان) أين أقضيها، كما أن سفير العراق في السويد ، هو الصديق صلاح عمر العلي . وتربطني بالأستاذ صلاح علاقة وثيقة وقديمة ، منذُ كان عام 1961 ، معلماً في الناصرية ، وكنتُ طالباً في الصف الخامس العلمي من ثانويتها . واستمرت هذه العلاقة عندما أصبح وزيراً للاعلام بعد (17/تموز/1968) . وباتصال هاتفي ، شجعني على القدوم للسويد .

    المهم : استقلَلْتُ باخرةً من مرفأ هلسنكي ، وتوجهتُ نحو العاصمة السويدية . كان الوقتُ مساءً حين شَقَّتْ الباخرة طريقها في البحر . ومع الضياء الأول من فجر اليوم التالي ، كانتْ الباخرة التي أقلَّتنا ، تسلك طريقها بطيئة بين جزر جميلة جداً . كانت عروساً تمشي بكبرياء ، فيما كان زَبَدُ البحر الذي يكونه رَفّاس الباخرة ، أشبه بذيل فستانها .

كانت الجزرُ الصغارُ الخُضرُ، صبايا صغيراتٍ يَنْحَنيْنَ ترحيباً بالعروس ، أمّا النوارس البيضُ ، فَكُنَّ وصيفاتِها. عِنْدَ رَصِيْفِ ميناءٍ صغير بالعاصمة السويدية توقفت الباخرة،  وهنا كانت المفاجأة بانتظاري .

         وحدويُّون أوربيون و .. وحدويُّون عرب ؟ !

   حملتُ حقيبة صغيرة ، تحوي متطلبات سفرتي القصيرة، ووثائقي، وأبرزها جواز السفر.. المفاجأة : لم يسألني مسؤول سويدي في الميناء عن تأشيرة الدخول ، بل لم يطلبوا جواز سفري، ولا طلبو هوية تعريف؟!.       

     أتدرون لماذا ؟ كان الجواب : هناك ثلاثة بلدان يسمّونها (اسكندنافية)، وهي : النرويج وفنلندا والسويد ، السفر بينها والدخول اليها لا يحتاج الى جواز سفر ، أو هوية تعريف، ويشمل ذلك المسافرين من غير مواطني هذه البلدان، ولكنهم قادمون منها .

    هذه هي (الوحدويَّة الأوربية) . أما (الوحدويون العرب) ، فما أكثرهم ، وما أضخم وأجمل شعاراتهم . تتذكرون الشعار الضخم : من الخليج الثائرِ .. الى .. المحيط الهادرِ ! ما أكثر الشعارات ، وما أجملها . أما التطبيق فهو أبعد ما يكون ..؟!.   

   رغم الألم ، دعونا نترك : الوحدة والوحدويين . ولنستمر باجراءآت الدخول للعاصمة السويدية.كان الصديق السفير صلاح عمر العلي بانتظاري . استقللنا سيارته الى حيث الفندق. اقترح عليّ برنامج تجوال، ساعدني في تنفيذ بعض فقراته ، فيما عهد للملحق الاعلامي تنفيذ الفقرات الأخرى .

                 في قصر الملك غوستاف ..

     ذهبنا سوية : (السفير العلي وأنا) نحو قصر الملك غوستاف (الإبن) . تجوّلنا في معظم منشآت وغرف القصر . ومرة أخرى لم نبرز هوية ، ولم نسجّل في دفتر دخول . وصلنا الى غرفة معينة ، ولنقل : قاعة صغيرة . قال السفير العلي : هذه قاعة استقبال الملك السويدي للسفراء ، عندما يقدّمون أوراق اعتمادهم . وأشار العلي الى مكان محدد قائلاً: في هذه القاعة وفي هذا المكان استقبلني الملك السويدي ، عندما قدّمتُ أوراقَ اعتمادي سفيراً للعراق لدى السويد .

     كما أشار الى باب مغلق قائلاً : هذا آخر ما نستطيع الوصول إليه ، فبعد هذا الباب ، يُوجد مكتب الملك غوستاف. وهنا كانت دهشتي : بضعة أمتار تفصلنا عن مكتب الملك السويدي .

    هل نقارن ذلك مع (أَمْنِيّاتِ / جمع أَمْن) الحكام العرب : ملوك ومشايخ وجمهوريين؟!. ليس هناك مجال للمقارنة ، فالبون شاسع بين : أحفاد (آل بوربون) ، وأحفاد عدنان وقحطان!. الفرق كبير جداً بين (آل بوربون) وباقي ملوك أوربا وبين عقلية  قادمة من فيافي الصحراء ، تحول الوطن الى ضيعةٍ مسجّلةٍ باسمها .. .

                   مع الملحق الاعلامي…

     هُنا كانت مفاجأة أخرى بانتظاري، مُفاجأة أراها مثيرة . حين التقيتُ الملحق الإعلامي الذي صاحبني في بقية فقرات تجوالي ، عادت بي الذاكرة الى بعض وقائع ستينات القرن الماضي . إنه الاعلامي طارق العاني . التقيتُه للمرة الأولى عام 1966 ، وفي مركز التسفيرات بمديرية شرطة بغداد ، قريباً من شارع المتنبي. بضعةُ أيام قليلة أمضيناها موقوفين بذلك المركز، وافترقنا..غاب عني وغبتُ عنه .

       وعام 1971 ، تكرَّر اسمه في وكالات الأنباء والإذاعات. في تموز من ذلك العام وقع انقلاب عسكري في بلد عربي أفريقي. كان الانقلابيون يساريي التوجّه.. يومها أحكموا السيطرة على العاصمة (الخرطوم)، وكان أول خبر خرج من الخرطوم عن هوية الانقلابيين قد صدر من مكتب وكالة الأنباء العراقية (واع) في العاصمة السودانية. وبُنِيت على هذه المعلومة ، استنتاجات ربما كان مبالغاً فيها، حسب رأي بعض المصادر ، أبرزها: اتهام العراق بتدبيرالانقلاب؟!.

                    الاعدامات بالجملة!!..

   وتم اختطاف بعض قادة الحركة الانقلابية من الجو (هشام العطا) مثلاً . واستطاع النميري إفشال الحركة ، ودارت طاحونة الإعدامات.

وفي صدارة الذين أُعدموا : عبد الخالق محجوب أمين عام الحزب الشيوعي السوداني ، والشفيع أحمد الشيخ نائب رئيس الاتحاد الدولي لنقابات العمال العالمي ،  والرائد هشام العطا قائد الانقلاب

            مطرود من الخرطوم                   

معذرة لهذا الاستطراد . والذي يهمني فيه الاعلامي الصديق طارق العاني .وفي تصحيح لما كتبتُه في جريدة الزمان بتاريخ ( 23/6/2024 ذكر الاعلامي الدكتور مليح صالح شكر ، ” أن العاني ( طارق محمد يحيى العاني )، كان قائماً بأعمال السفارة العراقية في الخرطوم ، عند وقوع الانقلاب العسكري في تموز 1971″.

   وإثر فشل الانقلاب اليساري ، أُبعد من السودان وطُلب منه المغادرة الفورية ، وعاد الى بغداد . واتُهم العراق بانه كان وراء الانقلاب .والتقيتُ الصديق طارق في مناسبة اجتماعية ببغداد عام 1974 ، حيث ضمتنا دعوة عشاء في بيت الاعلامي محمد جاسم الأمين، قرب تقاطع الجامعة المستنصرية. ومن المدعوين كان السفير كريم شنتاف والصحفي صاحب حسين السماوي. ومرة أخرى غاب عني وغبتُ عنه . وفي زيارتي السريعة للعاصمة السويدية عام 1975 ، التقيتُ الاعلامي المبعد من السودان عام 1971، طارق العاني ، في ستوكهولم . صاحبني بالتجوال . كان عارفاً بالمتاحف ، وذوّافاً في المطاعم . فشكرا له.

      أعترف أن النطق باللغة السويدية أشبه بموسيقى ، والمرأة السويدية جميلة جداً ، ليس فقط في عيون عراقي جنوبي قادم من ضفاف الهور . وقبل ستة قرون ، قال الشاعر الانكليزي بايرون : تمنيتُ أن كل نساء العالم يجمعها فم واحد ، لقبَّلْتُهُ واسترحتُ .إنها خواطر ومغامرات (48) ساعة في العاصمة السويدية.

مقالات ذات صلة