في إيطاليا: تركتُ المهمة السياحية وتابعت اختطاف ألدو مورو ؟!.



عام 1976، حللتُ في المؤسسة العامة للسياحة للعمل مهندساً، حيث جئتها منقولاً من دار الثورة للصحافة والنشر / جريدة الثورة. وكان نقلي قد تم بقرار رئاسي. وفي 16 / آذار من عام 1978، تم إيفادي إلى إيطاليا في مهمة سياحية ، بصفتي مدير النقل السياحي في تلك المؤسسة. من بغداد ، استقللتُ الطائرة العراقية المتوجهة إلى روما. ومنها بالطائرة الإيطالية إلى مدينة (تورينو ). وهي مركز صناعي مهم يقع شمالي إيطاليا. وصلت مدينة تورينو مساءً.
وحينها أُعلن الخبر الذي هزَّ ايطاليا خاصة ، وأوربا عامة، وهو خبرُ: اختطاف ألدو مورو ، رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي ، ورئيس الحزب الديمقراطي المسيحي. وفي وقت لاحق ، تبنت منظمةُ الألوية الحمراء ، وهي منظمة يسارية متطرفة، هذا الاختطاف. من هو ألدو مورو؟ يوصف بأنه ( أبو الديمقراطية المسيحية ) ، في إيطاليا وأوربا. لذلك كان النائب في البرلمان الايطالي ، يستلهم هذه الأبوّة ، وهو يصرخ في جلسة عقدها هذا البرلمان عقب الاختطاف قائلاً: لقد اختطفوا أبي !!. ( في تلفزيون غرفتي بالفندق كنت أتابع جلسة البرلمان الايطالي..).

ألدو مورو ، سياسي إيطالي. ولد في 21 / أيلول ( سبتمبر ) / 1916 ، في مدينة باري ، جنوب إيطاليا. إنضمَّ إلى الحزب الديمقراطي المسيحي ، وانتخب نائباً عن مدينته. وقد حافظ على هذا الموقع طيلة حياته. وتولّى مسؤوليات عديدة، فترأس مورو حكومة بلاده مرتين ، من عام 1963 إلى عام 1968، ثم من عام 1974 وحتى عام 1976. كما شغل منصب وزير الخارجية مرتين. عام 1971، فتح ألدو مورو باب الحوار مع الحزب الشيوعي الايطالي. وتوصل معه إلى اتفاق . يمتنع هذا الحزب بموجبه عن معارضة الحكومة في البرلمان ، ولكن دون أن يؤيدها.
كان اليسار المتطرف في إيطاليا ، يعارض توجهات الحزب الشيوعي الايطالي. لذلك قامت الألوية الحمراء ( Rigate Rosse ) ، وهي منظمة سرية إيطالية ، باختطافه في 16/ آذار / 1978، وقامت بإعدامه في 9 / مايس مايو / 1978. التظاهرات الضخمة صباح اليوم التالي لاختطافه ، وهو اليوم التالي لوصولي إلى مدينة تورينو ، عمت المظاهرات الاستنكارية إيطاليا. وشهدت مدينة تورينو ، كما المدن الإيطالية الأخرى ، خاصة العاصمة روما ، تظاهرات ضخمة. رفرفت فيها رايات الشيوعيين الحمراء ، وبقية الفصائل اليسارية. فهذه المدينة صناعية وذات ثقل عمالي.
ولكن ماذا فعل الموفد السياحي؟. لعلها مصادفة ، أن الدليل الذي سمته شركة فيات الإيطالية لمصاحبتي ، كان من المنتمين للحزب الشيوعي الايطالي. في تلك السنوات ، حقق اليسار في اوربا مكاسب انتخابية مهمة. وعلى أثرها اشترك الشيوعيون في الحكومات الائتلافية في فرنسا واسبانيا والبرتغال. رغم معارضة واشنطن الشديدة لهذا الاشتراك. وفي إيطاليا فاز قائد شيوعي بمنصب عمدة روما. وبصحبة الرفيق الشيوعي .. ، وللاسف لا اتذكر اسمه ،ترك الموفد السياحي مهمته الوظيفية ، واستجاب لنداء الصحافة.

وهكذا كنت والصديق الايطالي ، وسط تلك التظاهرات: مستمعاً حيناً لهتافات المتظاهرين ، ومصوراً حيناً آخر لحشودهم ولافتاتهم، مستعيناً بالمصاحب الرفيق الشيوعي . استمرت التظاهرات وتفرقت بسلام وهدوء.لم تطلق عليهم النار. ولم تُمزق لافتاتهم. ولم تُخترق حشودُهم. رسل ثورة 14 تموز وأتذكر، عام 1958، وبعد ثورة 14 تموز بأشهر قليلة ، قصد مدينة الناصرية، عبدالسلام محمد عارف. كان في حينها نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية بصحبة عدد من شخصيات الوضع الجمهوري الجديد : ناجي طالب وفؤاد الركابي ومعاذ عبدالرحيم. رحمهم الله جميعاً.

وتوجهت الجماهير الغفيرة من كافة مدن متصرفية المنتفگ.( وهذا هو اسمها في العهد الملكي. قبل أن تستبدل ، وتستقر أخيرا على اسم محافظة ذي قار). توجهت الجماهير نحو مدينة الناصرية ( مركز المتصرفية ). كان هناك شعاران رئيسان مرفوعان : القوميون بفصائلهم كافة رفعوا شعار : وحدة.. وحدة .. عربية ، عراق ومصر وسورية. بينما رفع الشيوعيون شعار : اتحاد فدرالي .. صداقة سوفيتية. وقبل وصول رسل الثورة ، كانت شوارع مدينة الناصرية تتحول الى ساحات مواجهة دموية.
وحين كان الطابوق الكثير يدكُّ سيارة قادمة من سوق الشيوخ ، وتقل مواطنين يهتفون للوحدة ، حين ذاك نزل السائق المسكين ، صاحب السيارة ، وخاطب من هم في سيارته.. قائلاً: (يابه .. السيارة إتفلشت من الطابوگ. لو إتصيحون إتحاد فدرالي .. لُو إتنزلون)؟!!. لقد تغلب العنف على الحوار ، والشك على الثقة ، والقطيعة على التحالف،

القرار الصعب
ولنعد إلى تظاهرات تورينو وراياتها الحمراء. انفضّت التظاهرة سلمياً ، مثلما بدأت سلمياً. لم أكتف بذلك ، بل صحبت الدليل للقاء شخصيات سياسية وأكاديميين ورجال أعمال. وكانت الحصيلة التي خرجتُ بها من هذه اللقاءآت، بأن أي سياسي لا يمكن أن يجازف للانزلاق بايطاليا نحو اليمين أو اليسار. إنه قرار صعب. والملائم لايطاليا هو موقف الوسط.
وكتبتُ تقريري الصحفي. وارسلتُه بالفاكس من مدينة تورينو شمالي إيطاليا ، إلى بغداد. وعلى الجهة الأخرى ، كان الصحفي حسن العلوي ، رئيس تحرير مجلة ألف باء في حينها، يتسلّم التقرير الصحفي وينشره. وكان بعنوان رئيس: إيطاليا والقرار الصعب. وتحته إشارة صغيرة : رسالة روما.. من عكاب سالم الطاهر.
عندما عدت إلى بغداد ، استدعاني رئيس مؤسسة السياحة في العراق، الراحل الذي طاله الإعدام لاحقاً ، طاهر أحمد أمين ، رحمه الله.وقال ، مع شيئ من عدم الرضا بعد أنْ اطلع على ما كتبتُه في مجلة ألف باء : (وَدَّيناك إبشغلة سياحية ، لو تكتب تقارير صحفية)؟!. لم أكترث كثيرا لامتعاضه. ما يهمني أن يهدأ بداخلي عواء الذئب الصحفي. نعم .. لقد هدأ .. ولكن إلى حين.
