فلنستذكر باعة الصحف يوم كان في ساحة الشهداء لوحدها 5 باعة صحف ومجلات!!
مع كلِّ احتفال الصحافة العراقية بعيدها السنوي، ذكرى صدور أول صحيفة عراقية اسمها “زوراء”، ينبغي ان نتذكر جنوداً مجهولين كانوا هم صلة الربط بين الصحيفة وبين القارئ، رجال مجهولون ينهضون من الفجر الباكر ليتسلّموا ما صدر من صحف عراقية وما وصل من صحف عربية ليعرضوها في اكشاكهم او جنابرهم وبسطياتهم او على الحائط او من خلال صبيانهم الجوالين، ثم لتصل الصحيفة الى المواطن بسعرها الرسمي الذي كان يتراوح في الخمسينات والستينات ما بين عشرة وعشرين فلسا ثم تطور الى الدرهم والربع دينار.
في الكرخ نشأتُ، وعايشت الصحف والمجلات من صغري، وانا طالب بالابتدائية حيث كان المرحوم والدي يجلب يوميا جريدة البلاد لصاحبها فائق بطي، والزمان لصاحبها توفيق السمعاني، كما كان يمتلك رصيدا من صحافة العشرينات وما بعدها والتي يحتفظ بها من أبرزها صحيفة “حبزبوز” لنوري ثابت. وحين قامت 14 تموز 1958 توقفت الصحف وصدرت صحيفة “الجمهورية” رئيس تحريرها سعدون حمادي وتمثل التيار القومي، فيما أخرج الشيوعيون صحيفتين “صوت الأحرار” لصاحبها لطفي بكر صدقي، و”اتحاد الشعب” ورأس تحريرها عبد القادر اسماعيل البستاني، والتي تحولت فيما بعد الى “طريق الشعب”.
وبعد ان وصلت الى الدراسة المتوسطة اصبحت اشتري الصحف بنفسي واول ما بدأت مع جريدة “الاخبار” اليومية لصاحبيها جبران وجوزيف ملكون. وكنت اكتب فيها موضوعات قصيرة وكنت القى التشجيع من رئيس تحريرها. وفي الوقت نفسهِ، كنت اتابع مجلة “سندباد” المصرية ومجلة “سمير” اسبوعيا، واشتريها من صاحب محل عطارة يبيع الصحف والمجلات ايضا اسمه (رشاد) ومحله يقع مقابل ثانوية الكرخ.
كما كنت اتابع الصحف اليومية واتذكر أبرز الصحف القومية في تلك الفترة كانت الحرية لقاسم حمودي، والفجر الجديد لصاحبها المرحوم محمد طه فياض، وتصدر مساء كل يوم وتباع النسخة بعشرة فلوس كما كانت هناك صحيفة “الحياد” عام 1960. وخلال شهر كانون أول 1962 حسبتُ عدد الصحف الصادرة في بغداد فوجدت عددها 23 جريدة يومياً، اتذكر منها الثورة ليونس الطائي واليقظة والسجل والحضارة لضياء شكارة والعهد الجديد لفيصل زكي والرأي العام للجواهري والاهالي لكامل الجادرجي واللواء وغيرها.
وبعد قيام 8 شباط 1963 توقفت الصحف السابقة وصدرت صحيفة “الجماهير” لكريم شنتاف وطارق عزيز، وبعد 18 تشرين 1963 تغير اسم “الجماهير” لتصبح “الجمهورية” تصدر من دار الجماهير للصحافة ويراسها فيصل حسون، كما صدرت صوت العرب للمحامي فوزي عبد الواحد، والعرب للمحامي نعمان العاني، والعروبة، ولواء العروبة، والجهاد للحزب الاسلامي العراقي، وأعيد افتتاح جريدة الشعب لصاحبها شاكر علي التكريتي” والتآخي الناطقة باسم ملا مصطفى البارزاني والنور الناطقة باسم جلال الطالباني، اضافة الى التايمز العراقية والتي تصدر باللغة الانكليزية.
حين نذكر الصحافة العراقية وباعة الصحف وموزعيها، نتذكر اشهر موزع للصحافة العراقية السيد عواد الشيخ علي ومكتبه يقع في جديد حسن باشا. وكانت كل جريدة يومية تطبع حينها 3000 نسخة تقريبا والمرتجع منها قليل جدا، في حين يقوم بتوزيع الصحف المسائية الحاج رضا على الدراجة الهوائية للمشتركين فقط وتطبع منها يوميا 1000 نسخة فقط”. علما أن 75 % من تلك الصحف توزع داخل العاصمة والربع المتبقي يذهب الى المحافظات.
وفي عام 1970 اقدمت الدولة على تأسيس الدار الوطنية للنشر والتي احتكرت كل اشكال التوزيع للصحف والمطبوعات العراقية والعربية والاجنبية، اضافة الى الاعلانات التي لم يكن يسمح لها بالمرور الا عن طريق الدار، ومن ايجابيات قرار تشكيل الدار كون الدائرة مدعومة حكوميا، ولديها امكانات كبيرة من قبيل ايصال المطبوع لأقصى نقطة في العراق بوقت قياسي عبر الطائرة او السيارات الخاصة، بحيث كانت تصل الصحف الى المحافظات يوميا عند الساعة 6 صباحا، كما كانت تشغل الكثير من الايدي العاملة“. بينما كان الموزع السيد عواد الشيخ علي وكان عدد وكلائه معدودين ومع ذلك كانت الصحف البغدادية تصل المحافظات بعد الظهر.
اتذكر ان في الكرخ كان لدينا أربعة باعة للصحف في منطقة ساحة الشهداء لوحدها، أحدهم سالف الذكر السيد (رشاد) الذي كنت اشتري منه قبل ان يتوقف عن بيع الصحف وينصرف للعطارة. والسيد (ذيبان) صاحب مكتبة قرطاسية ويبيع المجلات، وفي قلب ساحة الشهداء كنت احرص على شراء الصحف من محل صغير يقع على يسار بداية شارع النصر الشهير البائعان هما (حاتم) وشقيقه (محسن)، واستمرت علاقتي بهما لحين تخرجي من الثانوية وكنت اشتري منهما المجلات العربية اضافة للصحف العراقية. وفي نفس ساحة الشهداء كان هناك بائعان آخران للصحف أحدهما يجلس مفترشا الارض يسار باب مدخل (جامع حَنّان) ويستمر للظهيرة فقط، وآخر يفترش الارض في الجهة المقابلة خلف موقف باصات المصلحة وعند نزلة جسر الشهداء بالساحة.
كما اعتدت فترة دراستي في ثانوية الاعظمية على شراء الصحف والمجلات من “مكتبة العروبة” التي تقع بجوار السفارة الهندية بمنطقة نجيب باشا وكان صاحبها (قوميا متحمساً)!! بحيث انني حين كنت أساله عما إذا كانت قد وصلته الصحف المصرية اليومية، كان يجاوبني بعصبية جميلة!! (قل العربية ولا تقل المصرية)!! كما كنت احيانا اذهب لمكتبة (الصباح) عند شارع عمر بن عبدالعزيز ولا أنسي عدنان بائع الصحف الشهير في منطقة الدامرجي (العطيفية الثانية) صاحب مكتبة حواء وكنت اشتري منه الصحف المصرية التي دخلت العراق بعد 14 رمضان 8 شباط 1963 حيث تصل مساء يوم صدورها، وتباع بعشرين فلسا للصحيفة، وبقيت احتفظ بأرشيف ضخم من الصحف المصرية والعراقية واللبنانية والسورية والكويتية ولكنني اضطررت للتخلص منه بعد سفري خارج العراق. كان باعة الصحف في الستينات والسبعينات يتسلّمون الصحف العراقية (غير مُصَحَّفة) اي قبل ان تبدأ عملية التصحيف الميكانيكي، فيضطر البائع لتجميع اوراق الصحيفة وترتيبها بنفسه قبل بيعها للقارئ!!
كما اتذكر أن بعض المقاهي في بغداد ومنها مقاهٍ في شارع الرشيد مثل الزهاوي والحيدرخانة والشابندر كانت توفر صحفاً لروادها لترغيبهم وأحيانا كان أحد باعة الصحف القريبين من المقهى يؤجر الصحف للرواد لمطالعتها واعادتها مقابل بضعة فلوس. كما ظهرت اكشاش لبيع المجلات والصحف تقوم بتأجير الصحف فترة من الزمن مقابل ثمن بسيط.
تحديات توزيع الصحف العراقية اليوم
باعة الصحف في بغداد يواجهون مصاعب وتحديات عديدة، وتدخل جهات نافذة محليا في اجبارهم على بيع صحف تروق لهم والامتناع عن بيع ما لا يروقهم.
قبل اسابيع كتب أحد الزملاء تقريراً اخبارياً حول توزيع الصحف واشار في تقريره الى (بورصة الصحف) التي تسنى له ان يزورها بعد سنوات غياب طويلة واعترف بأنه فوجئ بطريقة التوزيع البدائية التي لا يمكن ان تعتمد في القرن الواحد والعشرين وفي ظروف منافسة حادة تعيشها الصحافة الورقية التي تعتبر التحدي الاكبر والمنافس لها الصحافة الالكترونية (صحافة البلاش!).
الصحافة اليوم تترحم على تلك الايام التي كان موزع الصحف العراقية في بغداد (عواد الشيخ علي) يدير عملية التوزيع بكادره البسيط وكانت الصحف تصل الى ابعد نقطة في بغداد في السابعة صباحاً، وكان له وكلاء في المحافظات يتابعون وصول الصحف وتسلّمها ..كان عواد الشيخ علي يدفع (سلفاً) لبعض الصحف والمجلات من اجل ان تطبع الكميات التي يحتاجها اما المجلات والصحف العربية والكتب فكانت توزع من قبل مكتبة المثنى.
الصحف العراقية اليوم ابتدعت بُدعة التعطيل في المناسبات الدينية والرسمية وهي بُدعة جديدة لم تكن تعرفها الصحف العراقية والعربية من قبل، حيث تستمر بالصدور طيلة ايام الاسبوع بل ان كبريات الصحف العالمية تزيد من مبيعاتها ايام عطلة الاحد وتصدر عادةً اعداداً مختلفة من حيث المواد والملاحق وتشكل رصيداً هاماً للجريدة لأن هذه الاعداد هي الاكثر احتواء للإعلانات ولأن المعلن يعرف هنا ان القارئ في العطلة يستمتع بالجريدة أكثر من الايام العادية بل إنّ هناك آلافاً من المشتركين فقط في الأعداد الأسبوعية!. وفي مدن الخليج العربي لاحظت انه يتم توزيع الصحف بواسطة سيارات خاصة على الباعة الجوالين المنتشرين بالتقاطعات عند اماكن معينة في الشوارع بعيدة عن التقاطعات لوجود منع مروري لبيع الصحف التقاطعات لما يسببه من حوادث مؤسفة وعرقلة للسير..
وفي الختام لابد من كلمة:
اتصل بي بعض باعة الصحف المشهورين في بغداد وشكروني على المقال، وطالبوا نقابة الصحفيين ان ترعاهم وتتابع شؤونهم وطالبوا بنقابة خاصة بباعة الصحف في العراق للدفاع عن حقوقهم.