رأي

فراتُ الجواهريّ “الغائب الحاضر”..

       كان فرات الجواهري بكل الألقاب التي يستحقها ، إعلامياً وسياسيا وأديبا بارزاً، و استثنائيا بكل ما تعني الكلمة. ومن جميل قَدَري معه، أنّني رافقته يومياً، ولسنين، فكلانا عمِل في “جريدة الجمهورية”، سيدة الصحافة يومها، وفي الطابق الثالث من مبنى “دار الجماهير للصحافة” في حي العيواضية.

     فرات العازف عن تسلّم أيِّ موقع إداري ، ليبقى كاتباً مميزاً في الشأن السياسي، وأنا أدير وأكتب في أهم صفحات الجريدة، الصفحة الأخيرة، محرراً ومسؤولاً ، ولمرّات كان “أبو بان”، يطلب مني بود ، ان أترك مجالاً لنافذته بحجم عمودين ونصف عرضاً و بطول كذا يقيسها هو بالسنتمترات لأنّ موضوعها يتطلب الحذر من التسرب،  بعد أن يوقع مقاله الأستاذ سامي مهدي رئيس التحرير ، وقدري أنْ امتثل للسيد الجواهري الابن المدلّل من هيئة التحرير ومن زملائه، فهو أكبر العاملين سناً ومكانة ، وقدرة ابداعية على الاختيار والمعالجة، وطالما كنتُ أطلب من مصمم الصفحة المناوب أن يترك مساحة للأستاذ “أبي بان”، الذي طغت كنيته بابنتهِ على اسم إبنه “محسد” حفيد الجواهري الكبير، لأنه يعشق اسم ابنته البكر، وحضورها، و”حِنّيتَها”، ويسره مناداته بـ”أبي بان”!.  

      و”بان” هذه، مدللة أبيها، تجتهد لإسعاده والعناية به ، أكثر  من أولاده الآخرين ، فيما كانت السيدة “أم محسد”، الدكتورة سلوى تمتلك حكاياتٍ ممتعةٍ عن رفيق رحلتها، تبدأ من حال مجيئها من مستشفى الكاظمية حيث تعمل كطبيبة نسائية وهي تعود ظهراً بانتظام إلى بيتها في “حي زيونه” ببغداد، لتلاقي فرات ذاهباً بالاتجاه المعاكس، تضبطه على جسر الصرافية كأي صحفي شقي له القدرة على إقناعها بانه عائد إلى البيت ولكن من طريق آخر غير الذي تسلكه!..و غالباً ما أنتظر عودته ليوصلني إلى زيونه، حيث أعيش متعة الحوار الخاص مع “أبي بان” بين بوح تأمّلي، وسرد لحكايات ذلك اليوم السعيد في حياته، وهو الصحافي المعتق بالمعرفة وجماليات اللغة، لاسيما عندما يفرغ لتوّه من كتابة عمود أو رأي، غالباً ما يجعل الآخرين يعبرون عن إطراء واعجاب كبيرين، بما يكتب!.  

    مرت الأيام وجرت مياه كثيرة تحت جسور بغداد، وتوقفت حرب الثمانينات لتبدأ حرب التسعينات وفرات، ورهط من زملائه الوطنيين الذين نذروا أنفسهم لخدمة الجريدة التي أحبوها، مستمرون في المعاينة والترقب لما يدور من حولهم تتأكلهم القناعات والأفكار التي تريد إبقاء البلاد بعيدة عن توتر الحروب والحصار المفروض على قلوب الناس قبل جيوبهم.. حكايات وتحدّيات لا تعد أو لا تحصى، ظل معها فرات الجواهري يدخن كثيراً، بل لم تسقط السيكارة من يده وكأنه ينتحر لكثرة الادمان عليها، حتى صار مدخناً شرِهاً ، ولكنه ظل فكها منكتاً  بطاقة من روح غريبة لم تغادره، فقد ظلّ قلبه ينبض بقوة حتى لحظات احتضاره، وفراقه للحياة مودِّعاً، تاريخاً بطولياً في الكتابة والعيش والوطنية. الله يرحم فرات الجواهري الابن الأكبر، والوتد الأعلى لبيت الجواهري العتيد ..

مقالات ذات صلة