ثقافة

“على أعتاب ذكرى رحيله المؤلم في “16 حزيران 2013”..زيارة إلى بيت طالب القره غولي

حملنا هوانا، وفي النفس أمنية لم تذقها الشفاه، بين بغداد والغازية (النصر) مسافة نصفها صحراء، يا هولها فاغرة أشداقها، والنصف الآخر مدن مخرّبة، جائعة، ظمأى، لا شيء فيها سوى الرايات ترفرف في سماواتها، صفر وحمر وسود، أظافر بؤس كأنها المُدى، يا لهذا الزمن كم  سرق من الأمكنة روحها؟

      لماذا أراك بهذه الكآبة يا أبا الشوق ؟ عيناك لا تقويان على الحزن، تمنيت لو أقطف النجم اكليل غار لطوّقت منزلك بالأقحوان، أيغار الحاسدون أن في ذاكرة الزمان لحناً موجع التنهد؟ نطلّ على البدايات الأولى، نستعيد أسرار اللحن في جنبات حجارة الطين؟ ترفع يدك كـأنك تنادينا، تلوّح بمنديل عتيق كي نستدلّ الدرب إلى حيث روحك تنهض من ركام النسيان كعنقاء:

           العمر مرَّ يا جمال، من يعود إلي ليفتح نافذتي؟

          ما نابني غير الألم، خسرت زماناً، خسرت بلاداً وأحلاماً،

            من سيبكي معي؟ من يواسيني؟

             تعال، سأفتح بابي وقلبي، أدخل أي نافذة شئت أو أي باب!

      في بيت طالب ثمّة مستودع للأغاني والألحان، تقودك خطاك لتبحث عنه في غيابات الدهشة ومكامن الحنين. ولأن البيت كما يقول باشلار هو جسد وروح، هو عالم الانسان الأول، فإن كل ما وعاه طالب ثانوي، لما رسمه من أحلام كانت حجر الأساس لما سيكون عليه. يضيف باشلار: إن الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديد، تلك البيوت تعيش معنا طيلة الحياة.

     عند عتبة باب بيتك نسأل عن صاحب الدار في مخابئ الذكريات، ما يزال رذاذ الذكرى يرطّب درب الحالمين كي يعيد للبيت وصاحبه لحظة الحضور واستحضار لحظات الإبداع والتجلي وتقاسيم أنين الناي الأولى، كيف صاغ طالب بريد القره غولي بدايات الخلود من جنبات الطين وفضاءات السماء المشرعة على البراءة سيدة الدهشة؟ أما لهذا الصمت من نهاية؟

تجفف عن صوتك ندى الغياب كي يستقيم الوتر :

  انا المسافر والسبيل سماء أغنيتي، أنا ابن ضفاف النهر أسكنه رحيلاً أو مقاماً لكن السراب يشدّني جنوباً إلى الناصرية…أحبّكِ يا واحة الملهمين، يا نخلتي عندما تتعب الريح… أغنيتي، فتلوّحين لي تنادينني من وراء الظلال: حبيبي تعال ..حبيبي تعال، ولم ندر أن هوانا محال، كلانا عشقنا المحال…لا يا هوى لا تلعب بحالي لعب لا!

      المكان أسهم في رسم الدلالات الأولى في وعي طالب الموسيقي، حفّزه على تفجير طاقاته، لأن عبقرية اللحن تكمن في قدرته على ابتداع مكانه وتشكيله انطلاقاً من تلك القرية المتشبِّثة بماء الغراف، بأشجار الصفصاف والدفلى على ضفتيه، تلك الأماكن لا تبتعد عن التاريخ، تلال لكش على مقربة منها في الضفة اليسرى من النهر، تبدو كغيوم باهتة تطلّ عليها من جهة الشرق.

    يشهد طالب امتداده عبر تلك المشاهد، مرة إثر أخرى: بستان جويسم، الفرهة، قناطر المنّاعية والنعوميّة، مرقد السيد ظاهر، صوت وحيد الهلالي يروي قصة واقعة الطفّ. هو الامتداد عبر هذه العروق الإنسانية ولد التوق للمجهول.

كانت الرحلة تبدأ من هنا، حيث كل الطاقات المحبوسة، منها نهل القره غولي سخاءه الفني، مفصحاً عن تجلّياته وفيوضه اللحنية الجديدة، إنها الإشارة الأولى الصادمة المعلنة عن موهبة فذّة.

    الغرّاف لا يبدو حاد المزاج، يجري بهدوء، يحفل بالقوارب القادمة من الجنوب تحمل “الخَّلال” المطبوخ، والحبوب، الانسان يتحدى التيار يصعد نحو الشمال بصلابة ذراعه وصبره، إنه مَثَلٌ للقوّة المتدفقة في الأنهار على مرّ العصور. موج يحثّ الموج لتنطلق أغاني الملاحين المكدودين المتعبين.

  طالب القره غولي يعود لهذا المنبت، إلى الجذور مشدوداً اليها، حاضرة في عقله وقلبه ووجدانه، حتى وأن رحل عنها لعشرات السنين. كان أبناء الغازية يخفون اعجابهم بمواهب هذا الشاب، يتهامسون الحديث عن (أبو الماصول) ـ يسموّن الناي هكذاـ لم يتخيلوا هذا الولد الوسيم كان يوقدُ في ذاته مسارج ألحانه، من عالم هؤلاء، عالمهم : النخل والماء والأحلام والحسرات، ولو كان بمقدورهم أن ينتبهوا لموهبته لكان لهم كلام آخر.

  في الشارع المحاذي لمدرسة البنات، في بيت طيني كنتَ تتسلل آخر الليل نحو تلك الضفاف، تخفي نايكَ تحت الثياب، في وقت تخلو فيه الشوارع من المارّة، إلا من كلاب تعوي، وفوانيس شاحبة معلّقة على جدران طينية متآكلة بفعل الريح والمطر، جدران أدركت قهرها منذ زمن بعيد. تبدأ العزف في الليل الغارق في وحشته، لا شيء سوى حفيف أجنحة الخفاش، فيأتي الصوت مثل أنين قادم من أوجاع التاريخ يهدّ جدار الصمت.

    لم يملك طالب عوداً للعزف، لم يتعلم الموسيقى في معهد متخصص، كانت خطاه تنقله إلى أنبغ شريان وتري سحري، هذا الصوت المجنون المتخبط في لجّة نهر، أنين هو أم حشرجات؟ صلوات هي أم أغانٍ ؟ هو اللحن ينقضّ سيلاً، فتركع حتى السدود على صدر تهجداته الزاحفة، وقد آن للريح أن تتمطّى وتستجيب لهذا الصوت : للناصرية .. بوجناغ أريد وياك للناصرية.. تعطش واشربك ماي بثنين إديّه..

  انتقل الى الناصرية تلميذاً في ثانويتها، والتحق في دورة تربوية أهّلته معلماً، كانت الناصرية موئلَ المبدعين، مدينةً تتلألأ كالنجمة في سماء الخمسينات: مكتبات، مسارح، سينمات، موسيقى، مقاهٍ روادها مثقفون، شعر، قصة، وعي، تظاهرات.

    هذه الأجواء أخذت من طالب القروي القادم من الغازية مأخذاً، اندمج فيها، انبهرَ بالأضواء وحياة المدينة، لكنها عمّقت وعيه، صقلت تجربته، ودرّبت مهارته، اجتهد وثابر، فانطلق نحو الآفاق الواسعة، ولا نهائيات الزمان، شاباً يافعاً يحمل مقوّمات الطموح كلّها، والقدرة على الاكتشاف والتجاوز، والتقاط الجمال في الكلمة واللحن.

ـ تعال يا طالب نغني تكبر فرحتي بعيني واشوف الدنيا بعيونك، أيها الطائر ما أقرب ما يحدو بك الشوق عندما تختمر الذكرى ويمتلئ القلب حنيناً :

حن وآنه حن …نحبس الونّة ونمتحن. مرخوص بس كتّ الدمع ..شرط الدمع حدر الجفن …لتغني معنا الدنيا

  ـ لقد غنيت يا أصدقائي تباريح هواي، ما أعذب الآه التي ذبت بها.  ـ أطلق خيولك يا طالب، دع سنابكها تزلزل ما توارثه العراق عن حزن العراق، وابدأ عصفك اللحني، فجّر الطاقات الصوتية في حناجر لم تعرف الغناء والموسيقى. افتح منافذك واصرخ : ياليل صدك ما أطخ لك راس واشكيلك حزن ! يالييييييييييل …

مقالات ذات صلة