عراقيٌّ في انتظار الدخان الأبيض..



انتظاراً لظهور الدخان الأبيض في سماء الفاتيكان، سَتَمٌّرُ أيام، ولربما أسابيع عديدة مشحونة بالترقب، تبقى عيون الملايين خلالها شاخصة صوب العاصمة الإيطالية روما، قبل أن يُسْمَعَ صوتٌ يقول: (صار عندنا بابا).
مكانٌ اكتظ بالآف المؤمنين، كثيرون منهم من خارج البلاد، تقاطروا لالقاء النظرة الأخيرة على جسده المسجى هناك، وليتابعوا من ثمَّ وبحزنٍ صامتٍ، هادئٍ، تشييع البابا (المحبوب)، (الاستثنائي) و(المتمرد) (فرنسيس)، الى مثواه الأخير الذي أراده خارجا عن المألوف ايضاً.

وفي صورٍ مَثَّلت آخر ظهور له إبّان عيد القيامة المجيد وسط الجموع التي ظلت تتابع حالته بقلق من ساحة كنيسة (القديس بطرس)، مانحاً بركته، ومتمنياً لهم فصحا مجيداً، استوقفني مشهد زهورٍ استقرت بين يديه لحظات، وهو الذي اعتاد أنْ يحملها، بلون الحمامات التي تطلق في حضوره في أماكن مختلفة من نحو خمسين بلداً زارها خلال فترة حَبريته (2013 _ 2025)، بيضاء مثل ردائه، وأحلامه وآماله، وقلبه أيضا.
اجتمعت تلك الصور في مخيلتي برمزية مهيبة، اشارة الى السلام والتقارب والتآخي بين البشر على اختلاف اديانهم وأعراقهم ومبادئهم وسياساتهم. وتعبيراً عن نهج اتّبعه بمحبة كبيرة، سعى الى ترسيخها بتواضعه وبساطته وضحكة ميزته في كل المواقف.

ولن آتي بجديد اذا ما أردت التكلم عن مآثره التي يتمنى جميع شرفاء العالم وأحراره ونبلائه وأصلائه أن يسير من سيأتي خَلَفَاً له، على خطاه، في العمل على ترسيخها، خدمة للضعفاء والبسطاء والمضطهدين والمظلومين والمحترقين بنيران الحروب والفقر والجهل وأنواع المعاناة الانسانية المعذبة في عالم مضطرب، تركَهُ قَلِقا ومهموماً. فتلك حقائق سيكتبها التأريخ بمداد من ذهبٍ، لم يكترث له (فرنسيسكو) النابذ للبهرجة والفخامة طيلة حياته، بقدر ما أود التعبير عن مشاعر انتابتني كعراقي، تابَعَ من بعيد وبحزنٍ انساني تفاصيل رحيله المؤثر، مثلما حرص على متابعة جولاته التي شملت بلداناً، نكَّس العديد منها الأعلام حداداً على رحيله، ووفاء لشموله بزياراتها.

سبق لي وان شاهدت البابا بولس السادس يطل من نافذة في مقره بالفاتيكان محييا زوار المكان ذات يوم احد، عندما كنت في زيارة لروما في العام 1976. ومنذ سنوات تمتد الى القرن المنصرم، ولعلَّه الشغف الصحفي الذي جعلني اعتاد السهر حتى الصباح، لرؤية بابوات سابقين خلال زياراتهم حول العالم، بابوات كان مقدراً لبعضهم أنْ يزوروا وطني الأم في زمن سابق لولا الظروف التي ابتلي بها هذا الوطن الصابر، حتى أنْ جاء اليوم الذي (تخطى) فيه البابا (فرنسيس) (الظروف) التي (حالت) دون تأمينها لأسلافه.

وقد كانت زيارة تاريخية مشهودة بحق، تلك التي قام بها لأرض الرافدين (5 الى 8 اذار 2023)، والتي تابعتها بمزيج من الفرح والأمل، يشوبهما الحزن أيضاً لأنني لم أكن هناك، إذ أنني (رافقته) في برنامج تلك الأيام الأربعة الحافلة بحركة دائبة ومرهقة بالنسبة لرجل يخطو نحو التسعينات من عمره.
تنقلتُ معه في الطائرة والسيارة و(مركبته) الصغيرة الـ(بومبايل) البيضاء ، ومشياً بين طرقات كرادة بغداد ومعالمها، ومتألما في حضرة (سيدة النجاة)، الكاتدرائية التي يعرفها العراقيون بالكنيسة (أم الطاك) التي أدماها الإرهاب، عابراً فوق جسور دجلة الخير.

سعدتُ لمرأى يديه تعانقان يدي اية الله العظمى السيد علي السيستاني في النجف الأشرف، وفي استقباله أطفال وحمامات بيض، رفرفت بأجنحتها أيضاً في فضاء كنائس الموصل وبيوتات (أم الربيعين) العريقة المدمرة، وبلدات سهل نينوى التي تنفض عن وجهها رماد أيام الخوف والتهجير والتنكيل، وتتطلع الى غدٍ جديد مسكون بالنور الطارد لظلماتٍ ما تزال تلقي بظلال قاتمة على واقع يعيشه بلدٌ ينتظر أنْ يتعافى، وصولاً الى أربيل التاريخ والجبال والجمال، ووقوفا عند محطة هي الأكثر رمزية لعناق الديانات السماوية في أور الناصرية أرض ابراهيم أبي الانبياء.



شخصيات كثيرة التقاها البابا الراحل، تمثل اطياف شعب الحضارات العريقة، الذي اعتاد التعايش بإخاء ووئام وأمان لقرون خلت. أجواء يحاول زمن دخيل إفسادها، وقد افلح في احيان كثيرة للاسف. لكن العراقيين بأبنائه الخيرين من أصحاب الأيدي البِيض والنيات النظيفة المخلصة، يعملون على استعادتها بأمل راسخ، رغم الصعوبات والنتوءات والجراح التي لا بد وان تلتئم يوماً.

وهم أنفسهم الناس الطيبون الذين فرحوا بزيارة البابا، وهم أنفسهم الذين استبشروا خيراً عندما قدَّمت أرض الرافدين كاردينالاً عراقيا ثالثاً تم اختياره من بين أبنائها الذين ولدوا وكبروا فوق ترابها العزيز، ألا وهو نيافة الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك بابل على الكلدان في العراق والعالم.
وعندما حان موعد الوداع الأخير، ذهب ساكو الى روما ليشارك في تشييع البابا الراحل، وسيكون في الفاتيكان ليشارك ولأول مرة في تاريخ بلادنا والمنطقة العربية والشرق الاوسط، في انتخاب البابا الجديد، وتلك لعمري مفخرة وحدث موضع اعتزاز لكل من يحب العراق بصدق.

وقد قوبل الحدث بحماسة وترحيب على الصعيدين الرسمي والشعبي في أوساط المسيحيين وإخوتهم المسلمين والصابئة المندائيين والأيزيديين وغيرهم من الطوائف الأخرى، والتي انعكست عبر مواقف متعددة، ابتداء بالموقف الداعم من لدن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وليس انتهاء بكلام الشخصية الدينية العراقية رحيم أبو رغيف الذي قال في منشور له مؤخرا:
(نتطلع وبحرص مسؤول الى وجود شخصية عراقية في حاضرة الفاتيكان حيث الكرسي الرسولي للكنيسة الكاثوليكية.

وغبطة الكاردينال لويس ساكو هو المرشح الوحيد عن الشرق الأوسط وشخصية تستحق هذا المقام.. . نعم لدعم غبطة الكاردينال لويس ساكو.).
وتكلم سماحته عن الموضوع اكثر في برنامج (على الحافة)، الذي بثته قناة (الشرقية) مؤخراً، بإمكان الراغبين في الاطلاع عليه، العودة اليه، ومشاهدة تفاصيله، وبإمكانهم البحث أكثر وقراءة المزيد عن يوم سياتي لن يظهر فيه الدخان الأسود، بل أبيضَ بلون أحلام مؤجلة ينتظر الملايين تحقيقها في عالم يسودهُ الأمن والرخاء والسلام.
و حتى ذلك الحين اقول: لتكن أيامكم بيضاً جميعاً بإذن الرب تعالى.
