عبد الأمير البدران.. لو أنّك أجّلت الرحيلَ بعض الوقت!



لم ينتظر صديقي وزميلي عبد الأمير مكلف البدران بعض الوقت كي يشاهد صورته مع واحدة من (لَمّات) احتضنتها إحدى زوايا نادي الكلية أو حديقتها التي عشقنا أشجارها المعمرة وورداتها الخجولة ومساحاتها الخضر المكتنزة المحيطة بذلك المبنى العتيق في الوزيرية.

مكان وجدنا فيه كل ما يرسم خطوط أحلامنا في ستينياتٍ ساحرة، ونراه بجمال أكاديميات الدنيا، وروعتها، ورقيّها، لأسباب كثيرة في مقدمتها جِدّية الدراسة، ورصانة مناهجها وثِقَلُ المدرسين الأفذاذ ومؤهلاتهم العلمية، وهم المحمّلون بشهاداتٍ من أرقى جامعات العالم، خالية من شوائب التزوير والتزييف والترقيع! .

لم يملك (أبو خلدون) قرار تأخير الرحيل أو تأجيله قليلاً، كي يقرأ ما كتبتهُ عن أيام ستينية جمعتنا ذات زمن لن يُمحى من ذاكرة أجيال عاشت حياة جامعية لن تتكرر باعتراف الكثيرين وبشهاداتهم. زمن استرجعتُهُ بطعم حنينٍ حقيقيٍ صادقٍ، صِدق العلاقات النقيّة التي كانت تقوم بيننا رغم تعدّد مشاربنا وانتماءاتنا وأطيافنا وما باتوا يدعونه اليوم بـ(المكوّنات)، وكأننا أجزاء في مستحضر يدخل أحد مراكز التجميل (المعاصرة)، في بلد الخيبات والعجائب!

لم ير صاحب الابتسامة الدائمة والإطراقة الهادئة، وقفته (في الصورة) حينما حلَّ بيننا مثل النسمة وسط جمع الجالسين في انتظار حصة الدرس التالي..
ففي اليوم التالي من نشري (عيديتي) بالفطر المبارك تحت عنوان (أيامكم سعيدة.. بأثرٍ ستيني!!) في صفحتي وعلى موقع (برقية)، تلقيتُ (رسالة) حزينة من أحد أبنائه بهيئة تعليقات متتالية تحمل اسم (فدك الزهراء)، أحدها يافطة سوداء (تنعى الوالد عبد الأمير)، المفاجأة الأليمة التي أصابتني بذهول وصدمة لم أفق منهما حتى تواصلت مع أبنائه عبر الفيس بوك، ثم هاتفتُ ابنه أسامة المقيم في كربلاء معزياً بالحدث الجلل.

(لو كنت أدري “صديقي”، لأسرعتُ بعض الشيء، لطلبتُ من العيد أن يحل مبكراً، لَقَدَّمْتُ الكتابة بضعة أيام، وجعلتك تسترد صفحة من ماضٍ واعدٍ عشناه معاً، لأدخلتُ فرحةً خاطفةً على ساعاتك الأخيرة!!). هذا ما ردّدته مع نفسي. وهذا ما فكر فيه وقاله لي إبنُه حيدر أيضا.، وأنا أغالب روحي كي أواصل بصعوبة قراءة سطوره، هو وبقية أشقائه.

ولكن الأمر لم يكن بيدك أو بيدي يا حيدر، وأنا عندما كتبتُ ما كتبته ونشرت تلك الصور، فقد كنتُ أستردُّ حلماً جميلاً، وأعيش مع أبطاله الرائعين الذين فرّقني الزمان عنهم، مسترجعاً ما أمكن من مشاهد إنسانية جميلة صافية، هي كل ما تبقى لنا في حياتنا التي لم تكن إلّا محطات ومفترقات طرقٍ تدفعنا الى المجهول ما إنْ ينفرط عقد الجماعة في كلية أو معهد أو مؤسسة تبلغ مشوارك الأخير معها.

إلّا أنَّ عزائي، أنّني في النهاية تعرفتُ على أبناء واحد من أكثر الزملاء المقربين اليَّ طيلة سنوات الجامعة الأربع، صورنا معا في النادي و الحديقة والممرات والسفرات الجامعية. صديقٌ من بين كثيرين فقدت أثرهم، هادئ، رزين، طيب، طموح، اعتاد أنْ يُحدّثني عن كتاب سبق وأنْ قراناه في زمنين مختلفين، او اقصُّ عليه باختصار أحداث فيلم شاهدته مع زميلنا الثالث جاك كيورك مرافقي الدائم الى دور السينما التي كانت تشع بها بغداد مثل ثريا عملاقة. جاك الذي افتقدته لثلاثة عقود كاملة، قبل أنْ ألتقيه مصادفةً في حي جرمانا بدمشق واتركه متأرجحاً بين السفر الى أرمينيا أو السويد أو كندا.

ومعاً، عبد الأمير وأنا، نبدي إعجابنا بالانجليزية الراقية التي يتقنها عارف فاضل المُرَتِّل المرح الذي يقود دراجته الهوائية في شوارع الكرادة الشرقية متبضّعاً أو متجوّلاً. ثم نتكلم عن منافسه أنور سليمان الذي التقيته للمرة الأخيرة في القوش (مهاجرا) أيام حرب الخليج الثانية في مطلع التسعينيات، حيث البلدة فتحت ذراعيها لكل من سعى الى النجاة من نيران القصف المجنون.

منذ تخرّجنا من كلية الإدارة العامة-جامعة بغداد في 1967_1968، لم ألتق عبد الأمير مكلف، ولم أسمع عنه، لاسيّما في سني الثمانينيات وما لحقها من عجافٍ مضافةٍ على شكل معارك وحصارات وشقاء ملوَّنٍ، جعلت حياة الملايين منا مختلفة ومقلوبة، مرتبكة وفوضوية في كثير من الأمور، أينما كنا ومهما كانت مواقعنا، سواء ارتدينا الخاكي او لم نرتده.
ثم، وبالنسبة لي جاءت السنوات الأربع عشرة من القطيعة مع الصحافة -ابتداء من مطلع التسعينيات- لتزج بي في دوامة، جعلتني أواصل حياة منزوية يصعب شرحها الآن.

والآن، وأنا اكتب وداعاً متاخراً بعض الشيء بسبب البحث عن الصور التي تجمعنا، وداع لم أتوقعه أبداً أنْ يكون بهذه الطريقة وبسطور مضطربة لم أستطع التحكم بها بعد أنْ علمت برحيل عبد الأمير، أشعر بالاطمئنان الكبير لما يقوم به أنجاله من جهد حريص في الحفاظ على آثاره ومؤلفاته التي كتبها في رحلة عمر كنا خلالها متباعدين، لا يعرف أحدنا مكان الآخر، ولكنّني ويا لهول المفاجأة، اكتشفتُ بعد فوات الأوان أنّنا كنا جارين، ونعيش في منطقة واحدة هي جزءٌ من الدورة في بغداد ولنحو عقدين من الزمان، يفصل بيننا شارع أو قطعة أرض مستطيلة، لا أعرف كيف أصبح شكلهما اليوم، لكنّني أعرف جيداً أنّ حزناً مضافاً أصابني لأنني لم ألتق صديقي الأثير في مكان أقمت فيه ثمانية عشر عاماً، وكان هو هناك لأكثر من ضعف هذه المدة، وتلك هي مفارقات الحياة، وخصوصا حياة أمثالنا نحن.. عبد الأمير وآخرين كُثْر أراهم في سطوري تلك بعد أنْ رحلوا أو تفرّقوا، أرثيهم وأرثي لحالهم ومن خلالهم أرثي زمناً باكمله.

رحم الله عبد الأمير، حيث ترتاح روحه بطمأنينة وسلام في فردوس الربِّ السماوي، مجدداً تعازي الحارّة لأهله وذويه ومحبّيه.



