تحقيق

طه البصري ، التاريخ الصحفي والدبلوماسي

      طه ياسين البصري، المدير العام لوكالة الأنباء العراقية، من مواليد قضاء المقدادية بمحافظة ديالى، ودرس اللغة الانكليزية بكلية الآداب  ومارس تدريسها بمدارس بغداد ومحافظة ديالى حتى عينته حكومة البعث عام 1969 مديراً لتحرير جريدة ( بغداد أوبزرفر) اليومية الناطقة باللغة الانكليزية .

    ثم انتقل إلى وكالة الأنباء العراقية عام 1970 ليصبح معاوناً للمدير العام، بالمرسوم الجمهوري رقم 761 بتاريخ 24 كانون الاول 1969 ،وبعد أن تعرض بهجت شاكر لمتاعب مع قيادة الدولة ،  أصبح طه البصري مديراً عاماً ، ثم وكيلاً لوزارة الثقافة والاعلام  عام 1978، وأعفي من منصبه لأسباب حزبية،

    وفرض النائب صدام حسين عقوبة حزبية على طه البصري عضو مكتب الثقافة والإعلام، وكيل وزارة الاعلام، مسؤول شعبة الإعلام الحزبية لعدم عقده اجتماعاتٍ تنظيميةٍ للشعبة فترة طويلة وأعفاه من منصبه ، وشملت العقوبة أعضاء قيادة الشعبة.

    واعتكف طه البصري في بيته وتردَّد أصدقاؤه في زيارته خشية من أنْ يكون بيته تحت المراقبة، لكنّي قمت مع صديق مشترك بزيارته وجلسنا معه في غرفة الضيوف، نشرب الشاي ، ولم يتعرض لنا أحد لا حينئذ ولا بعد ذلك.

     بعد حين تراجع النائب صدام عن قراره وعينه عام 1979 مستشاراً صحفياً في السفارة العراقية في العاصمة الامريكية واشنطن ، وهنالك قضى وقتاً في الاطلاع على المعالم الأمريكية المشهورة ، وأتذكر أنني اتصلت به هاتفياً من الجزائر عندما كنت مراسلاً لواع لتهنئته على منصبه الدبلوماسي.

     وبعد عودته الى بغداد، جرى تعيينُهُ مديراً عاماً في مكتب المنظمات الشعبية بمجلس قيادة الثورة ،وعاد الى واع لاحقاً.

    وطه البصري هو الوحيد الذي تولّى مهام المدير العام لواع مرتين حيث أصبح مديراً عاماً، لوكالة الانباء العراقية لثاني مرة، عام 1980 حتى عام  1987.

    وكان قد سلّم واع لمدير عام جديد هو مناف الياسين، وعاد ليخلفه في إدارة واع بعد اعتقال الياسين واتهامه بالمشاركة (بمؤامرة مزعومة ضد قيادة الحزب) .

   وفي هذه الفترة الثانية ، نجا طه البصري  والعاملون معه في واع من الموت في تفجير سيارة انتحاري دبرته إيران في مبنى الوكالة بعمارة الرواف في شارع إبي نؤاس كما سيرد الحديث عنه في السطور اللاحقة .

    وعاد طه البصري إلى العمل الدبلوماسي ، وتولى مهام سفير العراق في الارجنتين، وتواصلت معه هاتفياً وهو في الأرجنتين، أكثر من مرة من مقر عملي مراسلاً لواع في الامم المتحدة في نيويورك.

     وأصبح لاحقاً خلال فترة الحصار الاقتصادي سفيراً للعراق في اليمن ، وسفير غير مقيم في إرتيريا حتى عام 2001 حين عاد الى بغداد وعمل في وزارة الخارجية بدرجة سفير، ومديراً لمكتب طارق عزيز نائب رئيس الوزراء حتى الاحتلال الامريكي في نيسان عام 2003 وسبق له أن أصبح نقيباً للصحفيين العراقيين.

    وكان وليد  الجنابي في فترة معينة معاوناً للمدير العام طه البصري، وحل موفق عسكر محله بعد نقل وليد الى وظيفة المدير العام لدار الثورة ، ثم إعدامه في حادثة قاعة  الخلد عام 1979.

    وتتابع فراس الجبوري وموفق عسكر على منصب معاون المدير العام  ثم نقل الجبوري ليصبح مدير مكتب وزير الإعلام طارق عزيز ، ونقل موفق الى وظيفة المدير العام للشؤون الثقافية في وزارة الثقافة ووزيرها كريم شنتاف .

     وأصبح طه البصري ، وكنية البصري لا علاقة لها بمدينة البصرة بل هي لقب عائلته في محافظة ديالى، وكيلاً لوزارة الاعلام وسافر الى القاهرة دورياً وبرفقته نديم الياسين مدير الإعلام العام، لحضور اجتماعات اللجنة الدائمة للاعلام العربي المتفرعة من جامعة الدول العربية، وكنت آنذاك أقضي كل وقتي معه، ذهاباً واياباً، في الفندق وجامعة الدول العربية وفي تنقلاته بسيارتي في القاهرة.

   ولاحظت أن طه البصري، كان يستطيع السهر حتى الفجر وعندما أعيده الى الفندق استعجل الذهاب الى منزلي لأنام قليلاً قبل الدوام الرسمي في مكتب واع.

    وفي كل مرة أذهب الى المكتب متأخراً أجد أنْ طه البصري قد سبقنا الى المكتب، وهو بكامل نشاطه البدني بينما كنت أنا أغالب النعاس!

    ويعود الفضل لطه البصري على إتاحة الفرصة لي للعمل خارج العراق بعد أنْ كانت الأجهزة الأمنية ترفض نقلي الى بيروت حتى أصابني اليأس فدخلت عليه في مكتبه بالطابق الرابع من مبنى واع في أبي نؤاس  أسأله عن أسباب رفض نقلي إلى الخارج.

    ووعدني رحمه الله بحل المشكلة قائلاً لي إنّه يعتقد أن نقلي الى بيروت قد يكون سبب الرفض.

    وبعد فترة قصيرة حصلت الموافقة على نقلي محررًا بمكتب واع في القاهرة، وغادرت بغداد في الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول عام 1975.

   جئت من بريطانيا صيف 1983 في زيارة علمية لغرض جمع المعلومات والوثائق لدراستي الدكتوراه في جامعة أكستر ، وشرح البصري لي ما تعرض له وموظفوه في محاولة تفجير وكالة الأنباء العراقية في أبي نؤاس.

   والقصة كما رواها هو والزملاء الذين كانوا في قاعة التحرير في الطابق الأول من المبنى هي كما يلي:

    كانت الحرب العدوانية الإيرانية على العراق مستعرة في جبهات القتال ، فلجأ أعداء العراق إلى محاولة إسكات واع ، فأرسلوا سيارة مفخخة لعل سائقها يتمكن من دخول كراج الوكالة في اسفل عمارة الرواف، وبذلك سيدمر الانفجار كل المبنى ويقتل كل العاملين فيه.

      ويقول مأمون يوسف، سكرتير تحرير النشرة الانكليزية ذلك المساء (كنت محظوظاً حيث كنت جالساً في مكتبي ويحميني الحائط، ولو كنت واقفاً قرب جهاز إلتقاط الاخبار “التيكر” قرب النافذة، لانتهى أمري، لأن جهاز التكييف المثبت في النافذة طار من شدة العصف إلى آخر الغرفة ، وشعرت أني أطير في الهواء، وأقع على الأرض، والحمد لله لم يحصل سوى جروح نتيجة تطاير الزجاج).

     وتوفي في الحادث السائق مهدي صالح الذي سقط عليه جهاز التكييف في استراحة السواق، بسبب شدة العصف، وأصيب 21 منتسباً من واع بجروح متفرقة ، لكنها لم تكن مميتة.

       كانت بغداد قد شهدت عدة محاولات تخريب وقتل، رداً على اختيارها لاستضافة المؤتمر السابع لقمة حركة عدم الإنحياز، مما أزعج إيران وعمدت الى محاولاتها لمنع عقد القمة في بغداد، فأوكلت لعملائها تنفيذ ما يوحي بأن العاصمة العراقية ليست آمنة لاستضافة قادة حركة عدم الانحياز ووفودهم.

   يقول ماجد مكي جميل ( كنتُ، تلك الليلة، مساعداً لسكرتير تحرير قسم الأخبار الخارجية ، ونوبة عملي تبدأ ليلاً من السادسة وحتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وبدأت الورقة التي كنتُ أكتب عليها برتقالية اللون ولعدة ثوان ، قبل أن أسمع انفجاراً مدوّياً، فتناثر الزجاج، وتساقطت السقوف الثانوية على رؤوسنا ، وامتلأت قاعة التحرير بالدخان والغبار ، حالا دون أن نرى أحدنا الآخر ).

     ويواصل ( سمعت ونحن تحت الأنقاض صوتاً ينادي ( أبو نوفل ، أبو نوفل)، والمقصود به المدير العام طه البصري، لأنه كان الأقرب في مقعده من النافذة المطلة على الساحة الأمامية لمبنى واع، فرد البصري ( أنا بخير، وأنتم)، وسأل عن كل واحد منا بالأسماء).

        وتحامل الجميع على أنفسهم، إلى النوافذ المطلة على مدخل مبنى واع، وشاهدوا حفرة كبيرة بعمق مترين، وقطر ثلاثة أمتار، وأكواماً من الحديد المشتعل، وأناساً يركضون يميناً وشمالاً لتقديم المعونة للضحايا والجرحى، حتى  وصلت عشرات السيارات للإطفاء والإسعاف والدوائر الأمنية التي طلبوا من الجميع عدم مغادرة المبنى.

       وأصدر طه البصري تعليماته بإستئناف بث نشرات الأخبار بعد أن تعطلت جميع الأجهزة في مركز واع ، وحدَّد كلاً من مالك النواس وأسامة الصالحي للعمل على تأمين البث من محطة الإرسال في سلمان باك في قضاء المدائن خارج بغداد، وفعلاً استأنف النواس والصالحي بمعونة مهندسي وفني واع، البث في نفس الليلة.

     وقد حاول سائق السيارة المفخخة التوجه الى مدخل كراج السيارات الخاصة بواع فقط، ويقع تحت المبنى مباشرة، وتوقف بهدوء أمام الحاجز ( العارضة التي تغلق المرور) منتظراً أن يقوم الحارس برفع العارضة ليدخل متظاهراً بأنه أحد العاملين في واع، ورفض الحارس له بالمرور لعدم وجود الشارة الخاصة التي تسمح للعاملين في واع بالدخول الى الكراج، وتجادلا لكن الحارس أصرَّ على رفضه له بالمرور، حتى دب اليأس في نفس السائق الجاني، فتراجع بسيارته قليلاً الى الوراء، خوفاً من أنْ يستنجد الحارس بزملاء له، فانفجرت السيارة عند المدخل فقط.

    ولقد نجا ذلك الحارس من الموت مع أنه كان الأقرب إلى الإنفجار، ونقل الى المستشفى لعلاجه من جروحه. وفي صباح اليوم التالي، أذاعت إذاعة طهران باللغة العربية، نبأ يعلن ( تفجير مبنى وكالة الأنباء العراقية)، ولم يكن ذلك دقيقاً، بل خبراً معدّاً مسبقاً لأنهم هم من نظموا محاولة قتل العاملين في واع.

     وباستثاء طه البصري، المدير العام ، رئيس التحرير، لم يكن أيٌّ من الصحفيين العاملين في قاعة التحرير بواع في ذلك المساء، بعثياً،  وهم مالك النواس وماجد مكي جميل ومأمون يوسف وصباح أحمد الصالح.

      ولدى مالك النواس ذكريات أكثر دقة ، حيث أكد لي أنه كان ذلك المساء عندما حدث الانفجار (رئيس المحررين الخفر الذي يأخذ مكانه في سكرتارية التحرير، وكان معه في قاعة التحرير المدير العام طه البصري، وماجد مكي الجميل، وصباح أحمد الصالح، ومأمون يوسف في النشرة الانكليزية).

     وأحدث الانفجار حفرة كبيرة أمام مدخل الوكالة امتلأت بالمياه نتيجة تفجر أنابيب الماء، ولم يعد المبنى صالحاً للعمل على الاطلاق، وعندما زار الرئيس صدام حسين في اليوم التالي المبنى المهدم، أصدر تعليماته إلى وزير الاعلام لطيف نصيف جاسم بنقل الوكالة الى مقر مدرسة الإعداد الحزبي في شارع الزيتون في الحارثية حيث الحراسات أكثر شدة بسبب قربها من المقرات الحزبية والحكومية الرسمية، وكان النواس والصالحي بعيدين عن مركز واع عندما قام الرئيس صدام حسين بزيارة المبنى، لأنهما أشرفا على إعادة بث نشرات واع من محطة الإرسال في سلمان باك.

   ومن الغريب أن صدام في تلك الزيارة لم يمنح الجرحى أية هدية أو وساماً بالرغم من أنَّ وزير الزراعة ، أعتقد أنه كان عبد الوهاب الصباغ، الذي كان يرافقه قد تبرع ب25 خروفاً للجرحى!

    ونجح مهندسو وفنيو واع من استعادة الطاقة الكهربائية وشبكات الابراق والارسال في اليوم التالي مباشرة وبذلك انتهت مهمة النواس والصالحي والمهندسين في سلمان باك وعادوا الى مقر واع في إبي نؤاس.

     وقد أبلغني الصديق وليد عمر العلي أن موظفاً من سلطة الاحتلال في المنطقة الخضراء زار طه البصري بعد الاحتلال عام 2003 وعرض عليه براتب جيد جدا ً منصب رئيس هيئة الانتخابات لمحافظة بغداد ، ورفض البصري العرض متمسكاً بوطنيته وعراقيته .

   وكان ذلك الموظف في حكومة الاحتلال قد جاء الى منزل طه البصري متنكراً بالملابس العربية التقليدية مع الغترة والعقال ( وهو طيلة عمره لم يرتدِ مثل  هذه الملابس) حتى لا يتعرف أحد على  هويته بعد خروجه من المنطقة الخضراء.

     وقال الصديق وليد عمر العلي لي أن طه البصري رحب في لقاء له مع صلاح عمر العلي بعد الاحتلال بفكرة إصدار جريدة الوفاق الديموقراطي وهو الذي اقترح الاستعانة بعدد من الصحفيين ، بينما واصل البصري كتابة مقالة له باسم مستعار هو عبد الله الفالح وصور نماذجها منشورة مع هذا المقال.

    وتوفي طه البصري في 29 كانون الثاني عام 2006  في إهمال طبي أمام مستشفى اليرموك وشارك في تشييع جثمانه أفراد أسرته وعدد محدود من زملائه في واع هم مالك مزهر النواس ووليد عمر العلي وخالد غيدان العزاوي، وموظف أقدم بوزارة الخارجية بعد الاحتلال سعد جاسم الحياني ، وحضر أيضا نقيب الصحفيين شهاب التميمي وعدد محدود من أعضاء النقابة.

     ولابد في الختام أن أعرب عن الامتنان للصديق وليد عمر العلي على إتاحته كل صور جريدة الوفاق الديموقراطي من تكريت.

مقالات ذات صلة