“شيءٌ لم يُكشفْ” في كواليس المؤتمر القطري العاشر للبعثيين..



في كتاب “رحلة حياة دبلوماسية” للسفير المرحوم نزار حمدون مجموعة من الالتقاطات والمشاهدات التي رافقت حياته الحزبية والسياسية لاسيما في كواليس الدبلوماسية العراقية الخارجية، وقد نقل لنا الكثير مما يستحق أن يروى، نقله بأمانة، ودقة، فسلط الضوء على ما كان يتمتع به حكمة، وحنكة، وبعد نظر تجاه مختلف أمور الشأن العراقي.
ومن المثير أن نقرأ في هذا الكتاب -إضافة لما فيه من موضوعات منوعة أخرى- ما دار في اجتماع المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي مما لم ينقل في وسائل الإعلام، ولم يتحدث به أحد خارج قاعة المؤتمر إلى يومنا هذا حسب علمي ومشاهداتي وقراءاتي المتواضعة.
وسيكتشف القارئ الجانب المثير في الموضوع، وهو أن ما كان ينقل للشعب العراقي يختلف كثيراً عن حقيقة ما كان يدور بالفعل، فما يخرج للشعب من هذه المؤتمرات في العادة كان جرعات من التثقيف بأهمية الصبر والتحدي والمقاومة والبسالة وفتح العيون تجاه مخططات الأعداء، وضرورة الالتفاف حول القيادة ورمزها، والنصر المؤزر الوشيك على الأعداء والمتربصين والطغام والطامعين!.

إما الذي كان يجري في الداخل فأشبه بمناوشات ناتجة من الترقب والتربص المسبق، والرقابة، وتصيد الهفوات والأخطاء، تصيد لا يكتفي بمسيرة العضو نفسه، وإنما يتعداه في التعقيب على سلوكه الشخصي، وطريقة جلوسه، وكلامه، وتصرفاته، ثم يصعد ليشمل البيوت والأملاك والأولاد وكل ما من شأنه النيل من هذا الرفيق أو ذاك.
أما هل كان ذلك صحيحاً أو خطأ؟، فهذا مما أبعد نفسي عنه، فلست هنا في محل التحليل والتقييم، وإنما لعرض الحقيقة المجردة، بلسان من شهدها، ورغبة في فهم ما جرى، بلا زيادة، أو نقصان، أو رتوش، وتسهيلاً لمن لا يملك الوقت لقراءة الكتب، وللكثير ممن لا يزال يهتم بمثل هذه الوقائع التي صارت جزءاً من التاريخ وحان الوقت لكشف لثامها.
بقي أن نشير إلى أن ما ورد في المؤتمر المشار إليه كان حول ملابسات ما حدث في العراق بعد (أم المعارك)، وقد اختصرتُه قدر الأمكان، فماذا قال المرحوم السفير نزار حمدون في رحلة حياته الدبلوماسية التي طبعتها دار الحكمة في بغداد؟

بداية حامية: الدوري “يهاجم” الفرعون
في 12/9/1991 تم استدعاؤنا كحزبيين للحضور في مدرسة الإعداد الحزبي قبل الساعة الرابعة عصرا . وكنت آنذاك قد انتخبت من مؤتمر فرع أبي جعفر المنصور لعضوية المؤتمر القطري العاشر، بعد ذلك أخذ عزة الدوري رئاسة المؤتمر وهو يرتدي البزة العسكرية والرتبة وشارة الركن، وبدأ بالهجوم على عضو القيادة عبد الحسن راهي الفرعون بسبب ما اعتبره موقفاً مشينا ولا بعثيًا أخذه خلال الصفحة الثانية من أم المعارك.
وبدأ حسين كامل بالنشاط قائلاً: “هناك ضعف في دور بعض أعضاء القيادة … أقترح تشكيل لجنة بصيغة محكمة لمحاسبة الرفاق وحتى من أعضاء القيادة إذ لا يجب أن ننتظر المؤتمرات”. وعم القاعة تصفيق له.
بعد ذلك فتح عزة باب الترشيح لعضوية القيادة . قام حسين كامل وقال : “أعلن أنني لن أرشح لعضوية القيادة، ولكن ليكن واضحا أن أعضاء المؤتمر لا يعرفون الحقائق عن أعضاء القيادة. سأذكر ما أعرفه وأرجو أن يدقق ذلك. القيادة في معظمها لم تؤد واجبها في المعركة”.
وفي أحد الاجتماعات (والحديث لحسين كامل ) كان موجودًا كل من طه الجزراوي، وسعدون حمادي، وطارق عزيز، وسمير الشيخلي، ولطيف نصيف، ومحمد حمزة، السيد الرئيس وجه بوضوح لتوزيع المسؤوليات على أساس المحافظات [خلال أحداث ما بعد أم المعارك] في هذا الاجتماع وصلت رؤوس بعض أعضاء القيادة إلى الأرض، هل أحترم قيادة من هذا النوع؟،.. الرفيق طه فشل في عمله الإداري كوزير صناعة وفي الجيش الشعبي والصناعة العسكرية.
الرفيق طه لم يكن صح عندما تحدث عن عبد الحسن، فهو لم يدخل معركة الحلة للأسف وإنما جلس في آثار بابل، والحلة انتهت وهو لم ير قائدالفرقة حتى الساعة 6 ورأيته عندما عبر الكفل كان نازعًا للرتبة . وقالوا لي إنه كان يفعل ذلك دائماً ويلبس الغترة (الكوفية) . وتأكدت إنه ليس صحيحًا ما كان يقوله للسيد الرئيس بأنه قاتل ببندقيته .
اتهامات بالجملة
لاحظت أنّ بعض الرفاق يُسَبِّحون (أي يستخدمون المسبحة)، الرفيق طارق عزيز لم يكن يسبح قبلاً، الآن يفعل ويضع رجلاً على رجل ويدخن سيكار. الرفيق سعدون حمادي رفيق متفرد جدًا إلى حد الدكتاتورية ولا يؤمن بالكفاءة ، المهم هو، ولا تهمه مصلحة البلاد . آذى الاقتصاد العراقي أذى كبيرًا . الإدارة سيئة والتفرد كبير وغير مبدأي ، لا يعطي الحديث لمن يعارضه…
الرفيق لطيف نصيف كان في عمله ضعيفاً وليس له دور ومهزوم. الرفيق سمير الشيخلي كان وزيرًا للداخلية وأمن العراق بيده ، لم يتحرك المجذاف بيده . وكان بحالة من الإرباك والضعف ، والآن يعمل في الشمال وليس له دور نهائيا.
بعد ذلك جاء دور سبعاوي إبراهيم فقال: ( الرفاق سعدون حمادي ولطيف نصيف وطه الجزراوي ومزبان خضر وجدتهم في مكتب الرئيس عندما راجعته فور وصولي بغداد بعد الانسحاب من الكويت . كان هناك جمود وكأنهم في حزن ، وكأنهم في فاتحة ..

صابر الدوري يعقب:
خلال وجودي في مقر السيد الرئيس اطلعت على حادثتين تخصان الرفيق طه الأولى قبل أن يذهب للحلة عندما مر على مقر في أحد الدور في بغداد ظهراً للإيجاز قبل توجهه . لكن الرفيق طه لم يتوجه للحلة إلا في اليوم التالي مع أن الظرف كان عصيبًا . الحادثة الثانية : اتصلت هاتفيًا بالسيد الرئيس وأبلغته بأن الوضع في الموصل ليس طبيعياً ولا أستبعد دخول المخربين إليها يوم غد . ثُمَّ ذهبت للقاء السيد الرئيس ووجدت معه الرفيقين طه وطارق عزيز ، وأوجزتهم حول الوضع . السيد الرئيس طلب مقترحي، فاقترحت أن يذهب عبد الجبار شنشل وأحد أعضاء القيادة للإشراف على الوضع لأنّ النائب وعلي حسن موجودان في كركوك . السيد الرئيس طلب من الرفيق طه الذهاب إلى هناك . لم يجاوب الرفيق طه . وكرر السيد الرئيس مرة أخرى عليه . قال الرفيق طه إنه لا يجد ضرورة لذهابه وإن النائب أو علي يمكن ذهاب أحدهما ، وبأنه لا يعرف الموصل جيدا .
مرافق الرئيس يتحدث
وتحدث المقدم شبيب وهو أحد مرافقي الرئيس قائلاً: وردت رسالة من الجنوب عن الشغب . وحضرنا اجتماع القيادة. وللأمانة أقول بأن الرفيق محمد الزبيدي فقط قال نصف نعم وليس نعم كاملة. أما بقية أعضاء القيادة فلم ينتخ أحد منهم . وحصل اجتماع آخر صباح اليوم التالي وطلب السيد الرئيس أن يتولى أحد أعضاء القيادة مسؤولية الجنوب، ولم يستجب أيٌّ منهم لذلك الطلب. أمامي حدث ما ذكره الرفيق صابر حول الرفيق طه وعدم ذهابه للموصل. المواقف مخجلة، يكلف مرتين ولا يذهب .
كلفت مرة أخرى صباحًا بتهيئة سيارات وحماية للرفيق حسن العامري وللرفيق سعدون حمادي. الرفيق حسن ذهب ظهرًا والرفيق سعدون بقي ولم يتحرك إلا مساءً. بعد 2 آب جاءنا كتاب رسمي موقع بإسم الرفيق طه كقائد للجيش الشعبي، مع أن الجيش الشعبي كان قد حل منذ 3 سنوات وألحق بالفروع. جاءنا الرفيق لطيف نصيف مرة إلى السليمانية وهو مهزوز وخائف ومُنتهٍ، ويحمل بندقية بيده مع أن الحمايات كانت كثيرة حوله والوضع آمن.
عزة الدوري يضيف
كنت في الاجتماع مع السيد الرئيس عندما طلب من القيادة أن تتوزع على المحافظات ، ولم يجب أحد منهم . ثُمَّ طرحت أنا بعد مغادرة السيد الرئيس للاجتماع نفس الموضوع ووزعت أعضاء القيادة على المناطق، وأعتقد بأن أحدا لم يجبني . وبعد يومين طلبني السيد الرئيس في 6 صباحًا، وقال يبدو إن صفحة التآمر الثانية جاهزة. وكان منزعجا من عدم رد أعضاء القيادة عليه في الاجتماع. وقال إن محمد الزبيدي فقط رد عليه بأنه سوف يذهب. حاولت تهوين الأمر عليه على أساس إنها كانت صدمة لهم. الرفيق طارق عزيز وزير للخارجية ولا يمكن أن يرسل، ومرتين سمعت منه: خلوا لنا حصة معكم .

مداخلة منال الآلوسي:
“أنا المرأة الوحيدة في المؤتمر ولكني سأتحدث بالرجولة . منذ الأسبوع الأول للعدوان نحن نتجول في بغداد وبقية المحافظات وكنت أبحث في حينها في الوجوه عن سمات الرجولة. للأسف وجدت سمات الرجولة ضعيفة وأحيانا معدومة”.
علي حسن المجيد يضيف:
“أتفق مع كل ما ورد في حديث الرفاق… الخطير في وزارة الداخلية هو إن الوزير خول جميع صلاحياته لوكيل الوزارة وهذا لا يجوز.والسبب هو إنه أراد أن يحفظ خط رجعة أمام الأعداء والتنصل من المسؤولية.بشكل عام فإن مسؤولي الحزب في الشمال والجنوب والفرات الأوسط لم يؤدوا واجبهم، وإن أعضاء الشعب قاتلوا أفضل من أعضاء الفروع ومن أعضاء القيادة، ولم يقاتل إلا عبد الغني عبد الغفور.
ويضيف:” أنا أسأل الرفيق سعدون حمادي كم مكتباً يملك أبناؤه، ومع ذلك يتكلم عن تحديد الملكية. أنا أملك بيتاً واحدًا في بغداد ولا أملك غيره. إنهم يملكون في قطر والعراق وبيروت ورومانيا ويلعبون القمار يوميًا، ويصرف أبناؤك 50 ألف دينار على القمار. تريد أن تسأل الموظفين في الدوائر من أين لك هذا ؟ أنا أسألك من أين لك هذا؟ ،والمؤتمر يسألك من أين لك هذا؟.
طارق عزيز يدافع:

هذا المؤتمر مشهود له ليس للظروف فقط بل للصراحة والنقد وعدم المجاملة، ومهما كانت الدوافع، ونتمنى أن تكون مخلصة، فالمحصلة ستكون إيجابية لصالح الحزب. ولو نحن في القيادة كنا مارسنا ذلك سابقا لكنا قد تجنبنا كثير من المشاكل. ولكن هناك نوعان من النقد والاتهام. نوع يستند إلى وقائع أو حقائق، فهي إذن قابلة للتدقيق. مثلا ما قيل عن أبن طارق هو أمر يمكن التأكد منه. فإن صحت الاتهامات ومخالفة القوانين والتعليمات فليحاسب كل بجريرته . وهناك اتهامات انطباعية مثل ما قاله الرفيق حسين عن انطباعه في موضوع المسبحة والسيكار . لديك انطباع بأن طارق عزيز جبان، وكثير من البعثيين رافقوه لعشرات السنين ومواقف الرجال معروفة ولا يمكن إخفاؤها .
كثير من الرفاق الذين يعرفونني يعرفون إني أتكلم وأنقد ، وإن أكثر واحد أتحدث معه عن انتقادات هو السيد الرئيس ولكن الذي لم أفعله هو انتقاد الحزب أو انتقاد رفاقي أمام مقاولين أو صناعيين أو تجار .
مداخلة سعدون حمادي
أنا ما كنت أريد أن أتكلم حرصا على الوقت، ولكن عندما نذكرأشياء لا بد من إيضاحها للحقيقة. انتميت للحزب عام 1949 الرفيق حسين أنا شخصيا أعرف عنه صفات إيجابية جدا ، وأعتقد إن له بعض السلبيات. متسرع ولديه استعداد لإعطاء أحكام غير متأكد منها. يقول إني غير ديمقراطي ، هذا ممكن ، ولكنني متأكد إنني أرغب أن أكون ديمقراطي . تجربتي في المجلس الوطني معروفة ولم يشتك أحدًا مني لأنني لم أكن ديمقراطيًا. ولكن الديمقراطية لا تعني الكلام غير المحدود . وربما إن حرصي على أن نخرج بنتائج بعد النقاش يعطي انطباعاً بأنني غير ديمقراطي . أنا لا أدعي إن قناعاتي صحيحة ولكني لا أغير قناعاتي بسهولة . ومن الصعب أن أغير عاداتي . موضوع زيادة الرواتب ، أنا اقتصادي ودرست الاقتصاد ولدي رأي بالأمور . بعض الأمور أراها صحيحة وبعضها خاطئة ويجب أن نجتهد في رأينا . ولكن ليقال لي عن أي وقت في حياتي إن القيادة أخذت موقفاً وأنا لم أنفذه. في مجلس الوزراء العديد من المرات إتخذ المجلس قرارًا ضد رأيي وأنا قبلت. إنني اختلفت مع الفريق حسين منذ أيام في توزيع الموارد في اللجنة الاقتصادية.
وكان الرفيق حسين يضغط للحصول على أكبر كمية من الموارد للصناعة. وهذا حقه طبعًا وهو نشيط ومجد وناجح لكني أخذ عليه أن يعتبر موقفي إضراراً باقتصاد العراق. إن موضوع كوني ناجح أو فاشل إنما يعود للحزب والقيادة. ولو قيل لي إني فاشل لأصلحت أخطائي وكل واحد يخطئ.
وعن إساءات أولادي، بعضهم مستقيم السلوك وبعضهم عمل مشاكل. عاقبتهم شخصيًا حتى بالطرق القديمة. وبعدها لجأت للسيد الرئيس. الحقيقة إنني غير راض عن إساءاتهم وحاولت وسأبقى أحاول . ولكن إن كان القصد إلقاء ظلال علي شخصيًا فهذا ما أنفيه
مداخلة صدام حسين
( أم المعارك) هي أم المعارك ولم نكبرها نحن ، وتسميتها كانت قبل أن تقع لأننا كنا نتصور الثقل الذي سيحدث علينا ، وهي ليست لها قياسات . أحيانا نكون غير واقعيين . الرفيق طارق ثقفته أن ينقدني فقال أنت ترسم صورة للعراقيين وتتصورهم هكذا وكذلك البعثيين . ليس معنى ذلك أنني لا أرى أو أفهم الواقع .كتثبيت تاريخي كنت أنظر إلى الرفيق طارق فأراه متماسكا ، أما كملاحظات على الرفيق طارق فهي صحيحة وملاحظة عليه . الرفيق طه كان ذلك بمبادرة منه ، وموضوع الموصل صحيح ولكن بمبادرة منه وليس بتكرار مني طلب أن يكون على رأس زيارة.
حتى الرفاق الذين ضعفوا ، أنتم تحدثتم مرتاحين ، ولكن لا تدركون مقدار الألم عندي والحمد لله الأمور مشت . وإن شاء الله تقودون الأمة العربية . الكويت عراقية ليست لأنها عراقية وإنما لأنها عربية . من الأمور التي وجهت أن يكتب البعض في صحافتنا عن الكويت أنّها عراقية . وزير الإعلام لم أوجهه بذلك ولم أتحدث معه إلا قبل أسبوع فقط . لا يجوز أن نتناقض مع منهجنا ولكن ليس بالضرورة أن يقولها صدام حسين .
حدثت أخطاء وحصل ضعف ولكن انتبهوا ، النقد جيد ولكن لا يجب أن نخسر بنسبة عالية . الرفيق طه أنا استغربت إنه سجلت عليه ملاحظات لأنه رفيق قديم وعمل بالعمل السري بشكل جدي ، وحريص . لديه اجتهادات خاطئة ولكن يحتاج إلى التزام بعد الآن . لكن الرفيق سعدون حمادي ، الحقيقة لم أكن أتمنى له ذلك . الدكتور سعدون رأيته وكان بصورة غير طبيعية . أنت رجل نضالك في العراق غير معروف . جئتنا من رفاقنا القدامى وزيرا للنفط، وزيرًا للخارجية ، رئيس لجنة اقتصادية ورئيس للوزراء .
ويضيف السفير حمدون:” وانتهى المؤتمر بانتخاب القيادة الجديدة وغادرنا في الساعة ٥ عصرا من اليوم التالي . ومن الملاحظ إن العنصرين الرئيسيين ممن تمت مهاجمتهما وانتقادهما (طارق عزیز وطه رمضان ) فازا بعضوية القيادة أما سعدون حمادي فهو لم يرشح لها أصلاً”.
