أدب

شاكر السماوي عاشق الحرية..في حكايته عن الشعر والحياة: حزنتُ على وطني إذ خسرني وعليَّ إذ خسرتُه! 


      أجرى الحوار: د. رافد حداد (كالغري – كندا)



 غربتي أعادت إليَّ شاكراً أفضل
 صار الكتاب حاضنتي العقلية والروحية والورقة رئتي الثالثة
 أبعدت بوضوح الرمز عن مداره المتوارث باستعماله كما التشبيه لزخرفة التعبير الشعري وتوظيفه بما يمتد أبعد من مداه
 تجد كل شعري مشحوناً بالإيقاعات وجماليات الدراما .. وتجد مسرحياتي عامرة بهالات وسطوعات الإيقاعات الشعرية
 مظفر النواب حقق تميزاً تجديدياً في أسلوب صياغة الصور الشعرية وجزالة المفردات وتورية المحتويات.. إلا أنه توقف عن تخطي ذروته التي حققها في فترته التجديدية البِكْر
 نسيجي اللغوي تشكل عبر كل ما خلقته وبلورته لغتي الشعبية
 قبضت بشدة على بوصلتي الروحية والوطن والقيم الضميرية وإزددت تأصلاً ونضجاً إبداعياً
 على المغترب ألا ينغلق حد أن يختنق ولا ينفلت حد أن ينسلت!
 تعاملتُ مع لغتي بروحية فنان السيراميك صقلاً وتحويراً باتجاه تطويعها بسياق إيقاعي هارموني التهيكل
 أُحب المجانين .. وهم ألهموني متعة وعمقاً إبداعيين حيثما حضروا في أعمالي الشعرية والمسرحية
 الأسماء المثقلة بالدلالات الرمزية غدت سماتٍ من لوني الشعري والفصحى
 طالما تمنّيت أن أرى ظلي وأتابعه بجهاته وتشكيلاته .. لكن من العجز المطبق أن أمنح ظلي قدرة أن يراني!



مثل جبل شامخ، ونخلة باسقة، ونهر متدفق، وضياء مشع، وغيمة ماطرة، يتربع على قمة الشعر الشعبي العراقي كأحد رواده..اكتشف سر أسرار الكلمة، وبواباتها، فابتكر صوراً فنية ورموزاً، وقاموساً خاصاً انفرد به عن الآخرين.. صاحب براءة اختراع في الإبداع الشعري والمسرحي .. زخرف الرمز وجعله يمتد أبعد من مداه.. غدا الكتاب ملاذه الروحي وحاضنته العقلية والروحية، وأصبحت الورقة رئته الثالثة، فقرأ الأسطورة والتاريخ واللاهوت واللغة والسياسة وامتلك مفاتيح الثقافة العالمية..
أزمن الفرح في روحه وتحوَل إلى مصدات عبثية ضد حومانات أقدار الموت .. أما الجراح فكانت عنده هجمات تمنى دائماً بالردع، مما مكنه من أن يجمع التناقضات في قصيدة واحدة، بل في بيت شعري واحد.. تجاوز السبعين ومازال عاشقاً مثل مراهق، مندفعاً مثل صبي، زاهداً مثل درويش، شهيداً مثل قديس.. عاشق للحرية مثل كروان مغرد، يكره القيود والأصفاد، وحتى ربطة العنق!
غربته من مدينة إلى مدينة، ومن ثم إلى الأصقاع البعيدة حمته وأعادت إليه نفسه وهي أفضل.. حياته حبلى بالأحداث والمفاجآت والقصص والأشجان.. ركب أجنحة الخطر، وإقترب من الموت مرات، ولكن لم يفلت من يديه بوصلته الروحية والوطن والقيم..
    نقل النص المسرحي العراقي إلى العالمية، ووصف بأنه ظاهرة لا تتكرر.. ديدنه التجديد، لذلك لا تشيخ قصائده، كأنها ارتوت من إكسير الحياة، الذي بحث عنه جلجامش، فطاله هو بالشعر..
    في داخله أسى لايقاس، وألم لا يحتمل، وشوق بحجم العالم، وكل هذا بسبب الفراق الطويل ( حزنت على وطني إذ خسرني وحزنت عليَ إذ خسرته ).. هو لقرائه مثلُ ملحِ الأرضِ ومائها وهوائها .. إنه الشاعر الرائد شاكر السماوي .. الواحد المتعدد، الذي فتح قلبه الكبير وحكى لنا حكايته ومحطاته الطويلة مع الشعر والحياة..
قلنا للشاعر القادم إلى كالغري الكندية من السويد حيث يُمضي سنيّ غربته الطويلة: 



* وردت عنك في مجلد السير الشخصية لمجموعة من أعضاء اتحاد الأدباء السويدي – وأنت عضو فيه – عبارة جاء فيها: إنّ عنف والدك في معاملتك، وأنت صبي وفتى، هدم فيك سقف الأبوة .. ” ومن حينها وجد نفسه في موقف الرفض والصراع ضد الظلم والإستغلال، ومبكراً إنسحب من عالم الناس إلى عالم الكتب ” ، كيف تفسر هذا التحول؟ وما مديات إنعكاس ما حصل من آثار منه على شاكر الإنسان والشاعر؟

– يتأمل قليلاً بنظرة من الأسى والحزن ويقول جرى لي ذلك وبتواصل مديد وأنا من العمر بين العاشرة والخامسة عشر، وكانت الذروة حين عاقبني أبي بالكي على يدي اليمنى حين أحرقت دكانه للعطارة الذي أخرجني بسببه من مدرستي لأُديره له.
من حينها انطويت على نفسي، ونفرت من البشر ولُذتُ بالكتاب المدرسي وبكتب غيره مما كان أساتذتي يعيرونها لي تشجيعاً لي في سنوات الإبتدائية والإعدادية. من الحين ذاك شعرت أن الكتاب غدا ملاذي الروحي من جحيم أبي وجحيمي الذاتي ومن منغصات الضياع واليتم دونما يتم، فصار الكتاب حاضنتي العقلية والروحية، ومعه رحت أتعلق باللغة واللغات وموضوعات الإنشاء المدرسي ونشرات الجدار الطلابية تحت إشراف أساتذة اللغة العربية، وتشجيع الأساتذة اليساريين الذين درسوني.. وصارت الورقة رئتي الثالثة.
*  الصرخة ” .. النشرة الجدارية لشاكر السماوي، ماذا تعني لك الآن وقد أصدرت أربعة عشر مؤلفاً بتنوعات إبداعية؟

– يبتسم شاعرنا وكأنه تذكر شيئاً جميلاً في حياته ثم بدأ إجابته: أصدرت ” الصرخة ” الجدارية خريف(1953)، وكنت حينها أترأس فرع اتحاد طلبة لواء الديوانية، وكانت تحت إشراف أستاذ اللغة العربية رؤوف الجواهري، وإتخذت من موضوعات الوطنية والحرية والتحريض الثوري بوصلات تثقيفية وتنويرية وتحريضية، واستطاعت أن تستقطب حولها الكثير من الطلاب ذوي المواهب. ولكن إدارة الثانوية التي كنت فيها اكتشفت دوري التنظيمي في الأنشطة الطلابية فمنعتها وطاردتني حد أن فصلتني .. وغبت بعد ذلك في التنظيمات اليسارية والتشرد والسجون .. وظلت ” الصرخة ” صدىً يعشّش ويحث الكامن من قدراتي الإبداعية.

* من خلال قصائدك هناك من يصفك بأنك – رغم تجاوزك السبعين – لا تزال عاشقاً مثل مراهق، ومندفعاً مثل صبي، وزاهداً مثل درويش، وشهيداً مثل قديس.. فهل أنت تجد نفسك كل هؤلاء؟

– أتجرأ، بهذا الخصوص لأقول إن الكثير من السمات العقلية والروحية من عوالم ما أشار إليه سؤالك هذا، المتشابك الظلال والتوزع النوعي، أجده في كينونتي الإبداعية: الشعرية والمسرحية خاصة، هذا طبعا ما رصدته كناقد لنفسي وتبلور في تشخيصاتي النقدية، سيما حين رحت أُراجع تجاربي عبر ما أنتجه نصوصاً وعبر ما تبلور فيَّ من مدركات إبداعية ومقارنتها بمزاجي ترافقاً بسيرتي وتحولاتي وتوصلاتي الرؤيوية بين ما أنا عليه وعبره كشخص وما أتبلور إليه كمنتج ثقافي…إنني دوماً أهجس أن ثمة تدفقات في الشعور واللاشعور تضغط على الواعي مني كي ترى النور فألتقطها أحياناً وتواربني أحياناً.
    أما لماذا، أو كيف صرت وتهيكلت هكذا كما رسمتني بسؤالك فإن هذا ما أعجز عن إدراكه كما يدركه من يتعرف على أعمالي الإبداعية .. وبصريح القول: إنني أتلذّذ أن أجد بعض دواخلي وخصوصياتي الذاتية مجهولة كي تظل علاقتي بها بعيدة عن الوعي بها وأظل بعفويتي الإبداعية ، فالوعي الصارم يعرقل اللاوعي الإبداعي .. وأنا سعيد إذ أضأت بعضي لي، فأنا طالما تمنيت أن أرى ظلي وأتابعه بجهاته وتشكيلاته.. لكن من العجز المطبق أن أمنح ظلي قدرة أن يراني!



* ما حكاية ” المجانين ” معك؟ وما السر وراء بحثك عنهم والوقوف معهم وإيقافهم معك في قصائدك بالذات؟

– بدءاً أقول: أنني أحب المجانين على كل حالاتهم ودرجاتهم الجنونية وأعتبرهم ضحايا ما حل بهم من أقدار لا يَدَ لهم في وقوعها. لقد صادفت وعايشت العديد منهم في المعتقلات، من بينهم مجنون مدينة القاسم الذي قضى حياته يمشي حافياً ويقطع مسافات سفره يهذي شعراً، وهناك مجنون الديوانية في معتقل ” الحي العصري ” الذي قضيت معه فترة من اعتقالي، وكنا معاً في زنزانة واحدة ربيع 1967 وكان قد رُبط إلى شباك الزنزانة وربطتنا فترتها صداقة حميمة، وما كدرني منه أي أذىً سوى بكائه المتناوب أثناء نومه .. ولن أنسى إبتسامته المتمزقة حين ينشف دموعه. لقد خرب العقل الكثير الكثير من الكيانات والجماعات بينما ظل أذى المجنون محدود الضرر على الآخرين. لقد آمنت به حد أن قلت له في قصيدتي ” رسالة إلى مجنون ” –1967: 

لا تندم او عقلك يشط
وتعود للجيحة او تغُط
من كال …
جنات القفص للطير أحسن لو يحط؟!

لقد ألهمني المجانين متعة وعمقاً إبداعيين حيثما حضروا في أعمالي الشعرية والمسرحية. إني أرى أن في الجنون عبقرية بدائية غير متبلورة الملامح والمديات، وهي خليطة بين الطفولي ببراءته وعفويته وبين رؤىً تمزقت عبر التشتت الداخلي تحت مسارات الأحاسيس.
لقد حاولت مراراً سبر ما وراء حالات الجنون قصد التعرف على العقل الموارب بهلاميته خلف ظلال العقل كقشرة ربما تستر غوامض اللاعقل فينا، فازددت عجزاً وخيبة في مسعاي.. لذا انتهيت في تناولاتي له عند الحومان حول ماهية هذه الأحجية كشخصية بشرية في تلافيف عذاباتها النازفة عبر هزات معاناته.
وتوقفت عند حدود رؤيتي له عند كونه خليطاً من الحس المتورم نحو داخله وفضفاضية عبقرية تضمر عبر التوهان وشلل الإرادة.

* قصيدتاك ” احجاية جرح ” و ” قسم الفارس ” المكتوبتان نهاية ستينات القرن الفائت وصفتا من قبل البعض ممن كتب عن شعرك بالملحمتين، وبالذات من خلال استخدامك وفرة من الرموز فيهما .. حد أن هناك من يقول أن الرمز لم يستخدم في القصيدة الشعبية الحديثة كما استُخدم فنياً في شعرك.. فكيف يرى شاكر السماوي إشكالية الرمز عنده؟

– في القول هذا الكثير من سداد التشخيص، سيما حين يجري الإحتكام إلى مواصفات الملاحم الروحية والسيرية والصراعية عبر التجارب ومجريات الصبوات الثورية دون التوقف عند هذا وذاك من سكولائيات المواصفات الكلاسيكية حسب نهوج الفكر النقدي التي سادت أكاديمياً لحد الآن.
لقد أبعدتُ بوضوح الرمز عن مداره المتوارث باستعماله كما التشبيه لزخرفة التعبير الشعري باتجاه توسيع وتعميق مسارات المضامين أو بقصدية الإيحاء بملامح التجديد أو للتلويح بمديات رؤيوية خاصة ومستنبطة تزنّره كهالة رؤيوية توالدت منه نحو التجديد أو الأبعد والمتميز عنه بعض الشئ.
وللإنصاف الموضوعي لابد لي أن أشير أن ثمة شعراء شعبيين ورد عندهم الرمز قبلي وبالتوازي الحضوري معي، ولكن دون الذهاب بالرمز إلى مديات ماذهبت إليه قصائدي الوارد فيها من مديات توظيف شعري يمتد أبعد من مدآه. 

* قال الشاعر الكبير مظفر النواب في مقابلة صحفية عندما سئل عن متابعته للجديد في تجارب ونماذج الشعر الشعبي العراقي في الستينات [ إنني أقرأ شعر شاكر السماوي فيستهويني. ].. فماذا تقول عن ذلك؟ وكيف تصف علاقتك به وبشعره؟

– اطلعت على قول النواب الذي تذكر في جريدة ” النور ” التي أصدرها جلال الطالباني في ( 1969 )، حين انشق عن حزب البارزاني آنذاك. والذي لفت نظري أن النواب قال ذلك عن إحدى قصائد بداياتي في 1966 حين نشرتها في جريدة ” النصر “. أما علاقتي الشخصية بشخصه فما امتدت إلى أبعد من متابعة إنتاجه الشعري الشعبي، والذي تقلص بشكل ملموس بعد مغادرته العراق باتجاه محطات تنوعت. التقيته مرات متباعدة في أواسط الستينات في سجن القلعة في الحلة حين كنت أزور شقيقي الدكتور سعدي السماوي الذي كان يقضي مدة سجنه لعشرين عاماً في السجن نفسه. وما تعدت أحاديثنا حدود الدردشات حول حالات وتحولات السياسة الفترة تلك. أما عن علاقتي بشعره في أواسط الستينات، حيث مرحلة ” للريل او حمد ” فقد وجدتها أنها حققت تميزاً تجديدياً في إسلوب صياغة الصور الشعرية وجزالة المفردات وثورية المحتويات سيما في قصائد ( اسعود، اصويحب، سفن غيلان ).. كان المدى مفتوحا لتطور وتطوير القصيدة الشعبية آنذاك، إلا أنه توقف عن تخطي ذروته التي حققها في فترته التجديدية البكر، بينما راحت القصيدة الستينية تتصاعد و تندفع تنوعاً ونضجاً عطائياً باتجاهات أكثر حداثةً أساليبَ واشكالاً ومضامين.



* أور، آشور نُفَر، بابل، سومر، الحسين، جيفارا، وغيرها تكاثرت في قصائدك واتسمت بحضورها الزاهي والمتميز بأبعاد توظيفها الشعري .. هل ترى ذلك غدا جزءاً من نسيجك اللغوي الخاص والمميز؟
– ينظر إلى الأفق البعيد عبر نافذة المقهى وفي داخله تتزاحم حضارة ورموز عمرها ستة آلاف سنة ويجيب:هذه الأسماء المُثقلة بالدلالات الرمزية وسواها الكثير مما يرقى إلى جدارة الترميز به وردت في العديد من قصائدي منذ بدئي كتابة الشعر الشعبي ( 1966 ) حد أن غدت سماتٍ من لوني الشعري الشعبي والفصحى، لكنها ليست وحدها شكلت ما وصفته في إشارتك إليه بـ ” نسيجك اللغوي الخاص “، إذ أن نسيجي اللغوي تشكل عبر كل ما خلقته وبلورته لغتي الشعرية الشعبية في سياقِ ثلاثة مسارات هي: بلورة لغة شعبية مُفصحة نسبياً، غربلة المفردات من الميت منها والموغل في القِدم الريفي جداً، إذ غدا الريف يتمدين ويتسع التنور فيه، شعبنة الكثير من المفردات الفصحى ذات الخزين الدلالي والطلاوة الإيحائية ومراعاة يُسر التلقي من قِبل المتلقين بعموم المُنحدرات السكانية.

إن تضافر كل هذه المسارات في لغتي المُستعملة شعرياً بلور تدريجياً لدي معجماً لغوياً شعرياً مُتّسماً بالتشبع بالتفرد والجزالة والصدح الموسيقي الدال عليه، والسطوعات الحِسية في أنسغة التعبير حتى في صياغة الصور المُتشابكة .. وهذا ما أعانني مديداً على خلق توازن إيقاعي بين العمق الصادح بموسيقاه الداخلية والشكل المنساب جزالةً وسطوعاً حِسياً.. ومن هنا امتد وبتواسع معجمي اللغوي باتجاهين متساوقين وكذلك متداخلين. وتوصلت عبر تجاربي مع اللغة الشعبية وبحدود تماساتها مع الفصحى إلى أنني تعاملت مع لغتي بروحية فنان السيراميك صقلاً وتحويراً باتجاه تطويعها بسياق إيقاعي هارموني التهيكل مُضاءً عمقاً برؤى تواشجه وتهيكله كتكوين متكور التجسد جمالياً في تعبيره الجمالي والدلالي.

* (الألم المضئ ) مرثيتكم لشقيقكم ورفيقكم عزيز السماوي وصفت بأنها لوحة من الإبداع الشعري المُميز لمدرستك الشعرية .. حدثنا عنها وعن الفقيد الراحل؟
– تنساب دمعة من عينه، وهو يستمع إلى سؤالي، وكأني أثرت في داخله حزناً كامناً، وتجليات يريدها أن تبقى ساكنة.. مسح دموعه .. وأطرق قليلاً ثم نظر إلي وقال: كتبت هذه القصيدة حين أمسكت بأساسيات تدفقاتها الأولى وأنا أجوب شوارع لندن حين زيارتها بعد مضي قرابة الست سنوات على رحيل ” عزيز ” عنا. لقد شعرت، وربما تراءى لي أن لندن بدت خاوية رغم حشودها التي تتخثر على أرصفتها المُزدانة بالآيبين والغادين. وكنت في دوامات الحزن أطويني في تداعيات الذكريات سيما حين أجدني في الشوارع والأماكن التي عتدنا التجوال فيها قبل رحيله. بلشت أخط البدايات المتناثرة دون تحكم في تدفقها على قصاصات تعودت أصطحبها معي تحوطاً لما قد يفاجئني من بروق الكلام وأنا أمشي. تلك الحالة أقعدتني ضرورة أن أسجل ما يسحبني إليه من كلام على قصاصاتي حد أن أجلستني الحالة على رصيف قبالة مكتبة ” الساقي ” .. ورحت مع دموعي النصف مكبوحة أدرج على قصاصاتي غير آبهٍ بكل ما يتخاطف حولي من مخلوقات. بعد أن هدأت قليلاً إذ انحسر ما أخذني مني لملمت المُشتت مني ومن قصاصاتي وأسرعت إلى فندقي حيث نزلت. وظلت هذه الحالة من التدفق والنضو تعاودني لثلاثة أيام. بعد أيام أقفلت عائداً إلى بيتي في مدينتي في يوتوبوري – السويد – وهناك رحت أضيف وأحذف فيما ضمته قصاصات تلك التدفقات.. ثم انكبيت ساعات وساعات أُرتش بما قد استقر في صيغته التعبيرية من صيغ ” الألم المضئ ” .. وتسرب إحساس لذيذ في البعيد من مشاعري أنني ارتويت تناجياً مع عزيز وأني استعدته حياً وكففت عن مناجاته .. رحت عندها انحسر في داخلي، فخرجت بقصيدتي إلى بعض الآخرين وأنا عاجز عن تقييم ما تمخضت عنه. أما عن طلبكم مني أن أحدثكم عن شاعرنا الراحل فأُحيلكم إلى ” الألم المضئ ” كي تجيبكم وهي أبلغ وأصدق مني فيما تقدمه لكم من جواب.
ولا أضيف سوى قناعتي أن السماوي عزيز سوف يكبر حضوره الشعري مع تقادمه في الزمن واجتياز الوطن لسرطانات التنكر للجديرين والأفضلين.


* النص عند شاكر السماوي احتفالية بالحياة، رغم أن مِغرز الموت يشكل حلقات حولها .. كيف يمكن أن يلتقي الفرح – الجرح – الموت؟ .. وفي الوقت نفسه كيف أمكنك إنجاز ذلك؟ وما هي كلمة السر التي امتلكتها وكانت عصية على غيرك؟


 إن ثلاثية العناصر أو المسارب التي محورت َ سؤالك هذا عبرها هي ركائز عقلية – حسية – نفسية في الذات البشرية . وطبيعياً تنوجد بنسب متفاوتة الشدة أوالفاعلية من شخص إلى آخر، مع الأخذ بعين الموضوعية دور الظروف وتأثيرها المباشر كـ ( الوالدين، الأقارب، المدرسة، المعارف..)، وكذلك المؤثرات غير المباشرة كـ (أحداث العالم، الكتب، التسفارات، أدوات الاتصالات، وماشاكل..).
وما من شك أن الحالات كلها متواشجة أو متضاربة تظل رهينة النمو العقلي والنفسي والحسي، وكذلك رهينة التجارب الخاصة الصادمة أو المديدة التأثير، سيما من النوع العميق حسياً . فهذه كلها متشادة أو متضادة تزرع نتائجها في الذات عميقاً وتهدم أشياء وربما تشيد من الشظايا أشياء من ذات النوع الحسي أو من نوع مغاير. وكلما ازدادت رهافة الحساسية النفسية تزداد تداخلات هذه التكوينات في الذات. وعندي، ولن أدافع بالجزم عما سأقوله، أن مغرز الموت ساخن الضغط علي، وربما هذه الحالة متأتية من تعرضي العديد المرات للتماس المُهدد مع إحتمالات المحقق منه: في المظاهرات والسجون وبربريات التعذيب وحتى ملفات قضاياي في محاكم العهود على إختلافها.
ولا أدري من أين أتتني قدرتي على الفرح الذي أزمن في روحي، وربما تحول إلى مصدات عبثية ضد حومانات أقدار الموت! .. أما الجراح فكانت عندي هجمات تُمنى دائما بالردع.
أما كيف أمكنني إنجاز ذلك كما تسألني فلا أمتلك أي جواب يرد على هذه ” الكيف ” إلا إذا امتلك الميت لو عاد إلى حياته جواباً على كيف تمت عودته ! ولذا، ولأني ما امتلكت السر فأنّى لي أن أمتلك كلمةً للسر!.

* (الهجرات) في حياتك: من مدينتك إلى بغداد، ومنها إلى الجزائر وسوريا، ومنها إلى بلدان الشتات والصقيع، .. كيف تركت هذه المتغيرات بصماتها على قصائدك؟ وهل من مفهوم خاص للغربة لديك؟


 التغرب – بحدود مدلول تغير مكان العيش والسكن لمدة زمنية تمتد بعض الشئ – كان وكنت أبلغ من العمر أربع إلى خمس سنوات حيث كان أهلي يقطنون قرية ” الرميثة ” شمال مدينة السماوه، وانتقلنا إلى مدينة الديوانية .. وبذا كنت قد قضيت طفولتي في منطقة قد سُميت ” العارضيات ” حيث جدتي لوالدي تقرب إلى شعلان أبو الجون شيخ عشيرة ” بني احجيم ” ، والذي قاد ثورة العشرين في 1920. وبالديوانية اجتزت الابتدائية والاعدادية والثانوية حيث فصلت منها، فاضطررت إلى الهجرة إلى بغداد 1954 حيث تفرغت للعمل الحزبي وراح التشرد والسجون يتقاذفاني إلى أن حررتني منهما ثورة: 14 – تموز – 1958 بعد انتصارها بسبعة أيام حينها كنت أقضي فترة الحكم علي بالإبعاد لعامين بمدينة الناصرية. وتنقلت لأسباب عديدة إلى وارشو والجزائر وسوريا حتى استقر تطوافي الاختياري والإجباري في السويد، أيلول – 1989 .. ولا أزال أحتمي بها. والأهم في كل الترحالات هو أنها حمتني من احتمالات الموت والسجون وربما التصفيات التي كانت تحوم حولي من الحكام، وكذا المحكومين. وفي مداراتها طورت ثقافتي الخاصة وحميت حريتي الخاصة وما استطاعت أي جهة أو قوىً أن تبتز قناعاتي ولا مواقفي الوطنية والفكرية. زُد على ذلك وفرت لي فسح التفرغ للابداع والعطاء وتوسيع مديات التثقف برحابة حضارية متحررة وطلاقة شمولية. وتبلورت روحيتي في حب الحقيقة والحق واحترام حرية كل آخر لا يرتكب خطيئة الخيانة الوطنية.
لقد تغربت مديداً وتنقلت عديداً، وعلى مسار محطات هذه الغربة عانيت قساوة الحصارات بأنواعها وما نجت من ذلك حتى كتبي وحوصرت فُرصي الإعلامية وفرص عيشي من قبل الخصوم والمحسوبين والمنسوبين وما وقفت معي إيجابياً سوى الصدف المنقذة وقلة ُ تعد على الأصابع من أصدقاء لن أنسَ جميل مواقفهم، وقد أحبوني وأحببتهم وانصفوني بنزاهة وبود. لقد صلَبتني تلك المِحن والشدائد، وإني لفخور بي إذ لم يهتز داخلي عبرها و لا خارجي لأني قد قبضت بشدة على بوصلتي الروحية والوطن والقيم الضميرية وازددت تأصلاً ونضجاً إبداعياً .. وللأبعد في الكشف أقول: أن غُربتي قد إستعادتني إلي شاكراً أفضل. وتجربتي التي خرجت بها علمتني حكمتها : أن على المُغترب أن لا ينغلق حد أن يختنق ولا ينفلت حد أن ينسلت ! إن ماهية الغربة عندي كماهية الكَذِب .. فقد توصلت إلى أن أبشع أنواع الكذب هو الكذب على النفس فهذا قد يقود بتراكمه إلى مقتل ذاتي فيبدو المُبتلى به كمن ينتحر بهدف أن يرى نفسه كيف يبدو حين يُدفن! .. كذلك الغربة تحل بأبشع أصنافها ومطافاتها حين يغترب الانسان عن ذاته ويفقد قُدراته الرقابية على دواخله، عند ذاك يتوه في تشعبات مساراته اختياراً أو إجباراً .. وهنا تحل الطامة الكبرى إذ يجد الانسان نفسه أنه يريد لكنه مسلوب الإرادة !.

* قال عنك الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته النقدية عن مسرحيتك ” رقصة الأقنعة ” حين حضر عرضها على خشبة مسرح بغداد، شباط – 1979، والمعنونة ” رقصة الأقنعة .. مسرحية يستمر عرضها طويلاً “: [ لو كان بيدي أمر لألقيت بالمؤلف في مسارح العالم لينهل التجارب من ينابيعها حين ذاك سيجني البلد ثمرة ناضجة من شجرة ناضجة، إذ لا يتهيأ لنا شاكر السماوي في كل حين. ].. فكيف تشكلت علاقتكم بالمسرح؟ وكيف تنظرون إلى وظيفته التثقيفية؟ وهل تجدون ثمة علاقة إبداعية بين المسرح وشعركم؟


– قرأت هذه العبارة التي وردت في ختام مقالة الدكتور علي جواد الطاهر المنشورة في جريدة الجمهورية، وهي من بين ثماني عشرة مادة كُتبت عن عرض تلك المسرحية، وقد جلبها الفنان إسماعيل عبد الزهرة بطل المسرحية في ذلك العرض .. وقد كنت قد سبقته في المجئ إلى الجزائر. وبلشت بقراءتها في فراشي قبل الأخريات لعلمي بوزن الطاهر الثقافي والأكاديمي وصراحته الموضوعية. وحين أكملت قراءة مقالته التي غطت نصف الصفحة إنسقت مُرغماً في البكاء حين أكملت العبارة الختامية التي أشرت إليها في سؤالك هذا. لقد فرحت بحزن عذِب بهذه الوقفة التقييمية بحقي وصدورها من عالم ثقافي وعتيد الحضور أكاديمياً، وحزنت على وطني إذ خسرني وعلي إذ خسرته. لكني عرفت أن تلك العبارة قد إستهلت مرحلة يُتمي الحقيقي.. رغم أنني نادراً ما أنتشي بإعجابات ومدوح الكثير مما يُقال عني لأن ما يستهويني حقاً هو تناول ما أنتجه إبداعياً بالتحليل والكشف النقدي عن الجيد والسلبي في الأثر الموضوع تحت التشريح النقدي.

كانت تلك الوقفة التقييمية لي ولمسرحيتي وساماً روحياً وعقلياً افتخرت به حد أني كتبت في وصيتي التي أودعتها بين الأقربين جداً من بين أحبتي: أني أرجو أن تنقش هذه المقطوعة على شاهدة قبري لأنها شاهدة عليْ حين كنت حياً .. مع اعتزازي واحترامي لما قالهُ العشرات مِمَن كَتبوا عني أو عن أي إنجاز من إنجازاتي الإبداعية وسيرتي الحياتية. يبدو لي عبر تدقيقاتي التقييمية المتناوبة: أن ثمة تواشجاً كامناً بكثافةٍ شِبه إلهامية في تكويني العقلي والنفسي والحسي، ومنذ الفتوة، وتنامي التناسج عبر النمو بين ما هو شِعري في موهبتي وبين ما هو درامي.. وظل هذان الرافدان يترافدان على مسارات نموي العقلي والنفسي. ولعبت علاقتي بالكتب دوراً تصعيدياً باثراء كل واحد منهما على حدة وباتجاههما معاً، لذا ساهم كل منهما في إثراء وإعلاء الآخر.. ولهذا تجد كل شعري ومنذ البدايات مشحوناً بايقاعات وجماليات الدراما، وتجد مسرحياتي وحتى نثريات الفكر عامرة بهالات وبسطوعات الإيقاعات الشعرية .. وأتذكر أن الشاعر طارق ياسين أشار مرات عديدة إلى هذه الخصوصية في قصائدي وكتاباتي.. ولذا لاحظت أنني طورت وأغنيت أحدهما بتدفق الآخر بالتساوي صوب مديات الأفضل في نوعه. 

وأخصبني بالأثنين معاً كثافة وتنوع قراءاتي ومعاشرتي الحميمة للمسرح والمسرحيين .. لقد تعلمت بنهم، والأهم أنني أتقنت طرق تعليم نفسي عبر كل ما ربيت موهبتي به وعليه توصلت أن كل ما أجربه وأتعلمه يُضئ بصيرتي ويجدد قدراتي ومهاراتي باتجاه أرقى.

وللحقيقة أقول إن أرقى ما يسمو إليه الشعر هو حين يمتلئ دراما، وأن أرقى ما يحظى به المسرح – نصاً أو عرضاً – هو حين يشعشع الشعر على جوانبه وأعماقه.  

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**تعيد “برقية” نشر هذا الحوار مع اقتراب الذكرى السنوية لوفاة الشاعر الكبير شاكر السماوي الذي وافاه الأجل سنة 2014 عن عمر 78 عاماً، لروحه الرحمة والبركات.
 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق