رأي

سيوسيولجيا عراقية (16)..حينَ يكون “اليتيمَ الوالدُ”..فتتساقطُ نفسُهُ أنفساً!!

       أردّتُ أنْ أكتبَ شيئاً عن وداع رمضان الفضيل، واستقبال العيد الجميل، فقادتني “أحزانٌ شتّى” إلى شيءٍ آخرَ، فسلّمتُ أمري إلى ربّي الرحيم، مستعيناً بهِ لا بغيرِهِ على ما مَنَعَ، وما مَنَح:                     

      أقول: يختلجُ القلبُ، تبلغُ “الغُصّةُ” البُلعوم، ويكادُ النَفَسُ يضيق بصدرِ صاحِبهِ، لمجرّد أنْ يمرَّ به “خاطرٌ مرعبٌ”، بفقدِ عزيزٍ كالولدِ، ذكراً، أو أنثى!.. ذلك أمرٌ تَعسُر على المرءِ “دِقّة” الإحساس به، إلا بتجرّع سُمّ “التجربة” الزُعاف…    اللهمَّ “ولا تدخلنا في تجربة”، كما يقولُ السيّد المسيح عليه السلام!.

    وأسألُ نفسي: ما هي أبعاد هذه التجربة، ما هو عُمقُها، درجةُ عُسفِها، ولِمَ يفقدُ الأبُ القدرةَ على نسيانِ غيابِ إبنه، أو تصديق ذلك؟.. هل ترتبطُ الحالُ بالفِطْرة التي خُلقَ عليها الانسان؟..بتأثيرات العِشرة الاجتماعية؟…أم للتجربة المُرّة علاقة بعوامل نفسية لا يمتلك أحدٌ القدرة على التحكم بها، بل هي التي تحكمُهُ، وتبلُغُ به ذروةَ أذاها؟!.

                                (1)                          

    أوّلُ خيطٍ في لُجّة التفكير بهذا “الابتلاء الجَلَل”: إنَّ بين الأبِ، وبين فلذّة كبدهِ، فضاءً لا نهاية له، مكتنزاً بعمق العاطفة، بشجن تاريخ الاثنين معاً أو ضمن العائلة، بكل ابتسامة سجّلتها ذاكرة الأب، وبكل دمعة، وبأوّل صيحة “بابا”، وبآخرها، وبينهما امتداد عُمرٍ، هو بالضبط امتدادٌ لوجود الأبِ نفسه، الّذي ترفضُ كلُّ خليّة في جسدهِ “محو” حياة ابنه من أيّامه التي تلي الرحيل، حتى ليَظنُّ الأبُ، الوالدُ أنَّ حياته توقّفت عند اللحظةِ التي قيل له فيها: إنّ ابنك، قضى نحبه!!.

                            (2)

   ثاني خيطٍ في مُشْتَبَكِ هذا “الابتلاء”: الذكرياتُ، حيث “الشيء بالشيء يُذكر”، وحيثُ قول الخنساء:

     يذكّرني طلوعُ الشمس صخراً

     وأذكرُه لكلِّ غروبِ شمسِ

      ولولا كثرةُ الباكين حولي

      على إخوانهم لقتلتُ نفسي

     وحيث قول “قيس بن الملوّح”:

    أمرُّ على الديارِ، ديارِ ليلى  

    أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا   

   وما حبُّ الديار شغفنَ قلبي

   ولكنْ حبُّ من سَكنّ الديارا

       وحيثُ قول الجواهري:

   حبُّ الألى سكنوا الديارَ يشفّهم

   فيعاودونَ طُلولها تقبيلا

    ولقد حقَّ للفارعة بنت طريفٍ الشيبانية، أنْ “توبّخ” شجرَ الخابور، وهي تمرُّ به في الجزيرة الفراتية، فتراه مورقاً، سعيداً باخضراره، فيما هي دائمةُ الحزن على أخيها الذي غيّبته فيافي الجزيرة، فتقول:

      أيا شجرَ الخابور مالَكَ مُورقاً

      كأنّكَ لَمْ تحزنْ على ابنِ طريفِ

      وأيّام غيّبتِ الحربُ الأهلية في العراق، أربعةَ إخوتي الذين هم بمنزلةِ أولادي، فقد نشأوا أطفالاً، وشبّوا فتياناً، واستوى عودُهم، رجالاً على يدي، بعد أنْ فقدنا أبانا صغاراً، أحسستُ بـ”يُتمٍ” آخر، تماماً كما يقول صديقي الحبيب الدكتور هاني عاشور ، راثياً ابنَهُ العزيز “لبيد” رحمه الله: “أنا اليتيمُ وأنتَ الوالدُ الولدُ”!.

                       (3)

      وبرغم أنَّ للذكريات، بهيجِها، وبئيسِها، طعمَ “الحنظل”، فإنّها من دون ريبٍ، أقلَّ قسوةً من فرط الإحساس بالفقد الذي يتحوّل عند كثيرين من المرهفين، وجداناً، وخيالاً، وعاطفة، إلى شيءٍ من تذنيب الذات، وذلك خيطٌ ثالثٌ من خيوطِ هذا “الابتلاء”، فالمرءُ بهذا المستوى المتأجّج من المشاعر، يكاد يشعرُ أنّه “مذنبٌ” أو في الأقل “مُقصّرٌ” حِيالَ ابنٍ فَقَدَهُ، حتى لو لم تكن “حمايته” في مستطاعه. إنّه أشبه بالإحساس بـ”العجز”، وما يغذّي ذلك حزنُه المستمر، المتأجّج، الذي يتشكّل سايكولوجياً بغيمةِ كآبةٍ تأبى الانقشاع، وتستعصي على التلاشي!!.

    ولعلَّ في مرثيةِ الجواهري الكبير لـزوجِهِ”أم فرات”، ما يصوّر فداحة المأساة بفقدِ حبيب، فهو إذ يسحقهُ الوَجْدُ، يتحسّسُ كبدَه صخرةً، شعوراً منه بالعجزِ عن اللّحاقِ بأمِّ أولادِه التي فقدَها في وقت مبكّر من أيام شبابهِ:

       في ذمّة اللهِ ما ألقى وما أجدُ

       أهذهِ صخرةٌ، أم هذه كبدُ

       قد يقتُلُ الحُزْنُ من أحبابُه بَعُدوا

       عنهُ فكيف بِمَنْ أحبابُه فُقدوا

        ويأبى قلبُ الشاعر إلا أنْ يحاكيَ محبوبه روحياً:

        حُيِّيتِ “أمَّ فراتٍ” إنّ والدةً

       بمثلِ ما أنجبَتْ تُكنى بما تلِدُ

       تحيةً لم أجِدْ من بثِّ لاعجِها

       بُدّاً، وإنْ قام سدّاً بيننا اللَّحدُ

        بالروحِ ردّي عليها إنّها صِلةٌ

        بين المحبّينَ ماذا ينفعُ الجسدُ

       برأيي، قدْ يعجزُ كبارُ علماء النفس عن الوصول إلى ما في “رؤى الشعراء” من تدفّقٍ جوّانيٍّ، يعكسُ دقّة الإحساس الروحي بالفَقْدِ، إنّ الحال لتشبُه كثيراً، تجلّيات الصوفيّ حين يرقى بهِ إحساسهُ إلى الذوبان في عشق الذات الإلهية!.

     ورحم اللهُ أخي الحبيب الأستاذ منذر آل جعفر “أبا النعمان” الذي كانَ يردّدُ عليّ كلّما سألتُه عن حالهِ في سنّي مرضه العضال، قولَ امرئ القيس:

   ولو أنّها نفسٌ تموتُ سويّةً

   ولكنّها نفسٌ تَسَاقَطُ أنفُسا

                        وللحديث “صِلة” إنْ طال بنا المُقام

                     عن بقية “خيوط الابتلاء” بفقد “حبيب”   

مقالات ذات صلة