سيرة ذاتية..مقتل وزير(5)..تفاصيل لحظة “التنافر” في “المجلس الوطني” بين رياض وصدام!!
إن إقالة الوزير شيء وقتله هو شيء آخر تماماً. وأتذكر في نهاية السبعينات أننا كنا استُدعِينا إلى المجلس الوطني لحضور ندوة أدارها صدام مع بعض الشخصيات الحزبية ذات الصلة بالعمل في وزارة الصحة. وقد بدأ صدام الحديث عن العديد من الأشياء حتى إذا ما وصل إلى وزارة الصحة صار اهتمامه بالموضوع يتخذ معنى وكأن الندوة قد عُقِدتْ لغرض إحراج الوزير وإدانةِ عملهِ في الوزارة. حينها وجدَ الوزيرُ نفسَه مضطراً للدخول على الموضوع بإجابات حَمَلتْ بعضَ الحِدّة وهو يدافع عن عمل الوزارة وكأنه كان يشعر أنَّ طريقة إثارة القضية ضِدّهُ هي جزءٌ من عملية استهداف مُبيَّت لغرض حرقه والتخلص منه.
ولمرتين أراد صدام من د. رياض أن يتوقف لكي يكمل حديثَه, إلا أن د.رياض لم يعطهِ الفرصةَ، ربما لشعوره أن القضية قد تكون من باب الحق الذي يُراد به باطل, لذلك كان انفعالُه مشروعاً, ولكن ليس مع صدام حسين الذي راح لمرتين يطرقُ خشبةَ المِنصّةِ دون أن يَلقى استجابةً. هذا الأمر بطبيعة الحال كان من الممكن أن يؤدي بصاحبه إلى الهلاك. بعد الطرقة الثالثة صاح صدام بصوتٍ عالٍ وغاضب : رياض دعني أكمل حديثي.
في اليوم الثاني إلتقيت بالدكتور رياض في غرفتهِ وكانت المناسبة اجتماع منظمة النشاط الوطني الأسبوعية. قبل اللقاء مع بقية أعضاء المنظمة الأربعة قلت للدكتور رياض إنَّ موقفه ذاك لا بد وأنه أثار غضب صدام, وتنبّأت بأن الأخير لن يسامحه فهزَّ رأسه هامساً: بها أو بغيرها فإن الغضب قادم !
الدكتور رياض كما قلت كان متزناً وغير متسرّع, ولكنه, وهو يشعر بقضية استهدافه, فإن تعامله يصيرُ صريحاً, وقد حدث ذلك بحضوري في جلسةٍ خاصةٍ لقيادة مكتب الأطباء الذي كنا عضوين فيه, والتي كانت قد عُقدِت بحضور أربعة من أعضاء القيادة القطرية أذكر منهم المرحوم جعفر قاسم حمودي حيث راح هذا الأخيرُ يَعيب على الوزير بعض أخطائه في الوزارة, فما كان من الدكتور رياض إلا أنْ أجاب بشكلٍ أثارَ دهشتي حينما أخبر عضو القيادة بأنه يجب أن يكون آخر من يتحدث عن الأخطاء في الوزارة بعد أن اتّهمهُ بتوسطه لإحدى الممرضات لأجلِ إغلاقِ ملف التحقيق معها بشأن قضيةٍ من القضايا.
لماذا كان الدكتور رياض يتصرّف بهذه الطريقة مع قياديين في الحزب وهو يمارس حزبيّته من موقعٍ حزبيّ أدنى من مواقعهم. الجواب ببساطه لأنَّ تاريخَهُ في الحزب كان يمنحه الثقة بنفسه مُفعلةً بشجاعتهِ واعتزازهِ بنفسه إضافة إلى واقعية النجاحاتِ التي قدّمها أثناء استيزاره, كما وأن لعائلته أفضالاً على صدام نفسه حينما كانت العائلة توفر له المكان الآمن والرعاية في أثناء ملاحقته من قبل الجهات الأمنية.
لكنَّ صدام كان يشعر أنّ رياض لم يكن من صنيعته, وهذه المسألة تشكل الأساس في تركيب الميول التي تتحكم بصدام تجاه أعضاء القيادات الحزبية والحكومية. كل مسؤول حزبي أو حكومي ليس من صنيعتهِ كان مرشحاً للإزالة إن لم يقبل الترويض. وكان ذلك السلوك مفهوماً, فالرئيس الذي يُذّكِر شعبه بأنه من ألبسه النعال بعد أن كان حافياً لا بد وأن يكون من النوع السايكوباثي الذي يتصرّف مع الجميع باستهانة.
وفي كلِّ الأحوال كان الدكتور رياض خارجَ معادلةٍ كهذه, فهو صنيعةُ نفسهِ وعلمه وكفاحه ونوعية تعليمهِ. وحينما تسلّمَ مسؤولية الوزارة حرصَ على إنجاز مستشفى حكومي مركزي كبير في كل محافظة، فيما بعد تمت تسمية هذه المستشفيات باسم مستشفى صدام بعد أن صار الأخير يملك العراقَ كلّه.
أتذكرُ أنّني كنتُ بصددِ أنْ أفتحَ معملاً صغيراً خاصاً باسم معمل (المنصور) لتصنيع الحشواتِ السِّنّية في زمن الحصار الذي فرضته قواتُ التحالف على العراق, وكان علي أن أحصل على إجازة للمعمل من قبل غرفة تجارة بغداد. حينما ذهبت إلى شارع النهر حيث مقر الغرفة أخبرني الرجلُ المسؤولُ عن الإجازات أنَّ عليَّ أنْ أجدَ اسماً من خارج قائمة الألقاب المائة وعشرين التي أصبحت تطلق على الرئيس وصارت ملكاً خاصاً به.
ولما كان اسمُ القائدِ (المنصورَ بالله) من ضمن هذه الاسماء لذك صار مستحيلاً ان أحصل على الإجازة ما لم أجد اسماً آخر للمعمل. هكذا أصبحَ البلدُ ملكاً لصدام, وقد ذكرتُ أن الوزير الدكتور رياض كان مشروعَ إقصاءٍ لأنه على الأقل لم يكن في الأصل صنيعة صدام أو ملكاً له.
غير أن مشروع الإقالة هو غير مشروع الاغتيال, لأن هذا الأخير يحتاج إلى مبررات خارجة عن مبررات الإقصاء, فأنْ يُقالَ وزيرٌ ما ليس بالضرورة أن يقتل إلا إذا توفرت الأسباب الموجبة لعملية القتل مضافة على الأسباب التي دعت إلى إقالته.
في هذه المساحة بالذات، علينا أن نبحث عن الأسرار الحقيقية لحادثة الاغتيال, فلو فرضنا جدلاً أن د. رياض لم يُبَّرأ من قبل اللجنة التي تشكّلت لغرض حلِّ لغز الدواء السام, والتي كان من بين أعضائها الدكتور فاضل البراك مدير الأمن العام, فإن هذه اللجنة على افتراض أنها أدانَتْه, إلا أنّها بكل تأكيد لم تذهب في قرار الإدانة إلى الحد الذي يؤكد فيه أنَّ عملية الاستيراد لذلك الدواء كان خُطِّطَ لها لكي تكون وسيلة لقتل الجرحى العراقيين في اثناء الحرب العراقية الإيرانية, ولتقترح بالتالي إدانته لهذا السبب وقتله, وذلك كما صرح صدام في خطاب الدجل الذي بثه تغطية لجريمة القتل الفضيحة (إن خميني كان يتكفل بقتل الجند العراقيين على الجبهة وكان رياض يتكفل بقتلهم في الداخل عن طريق الدواء).
وسأكتفي بهذا الحد من التفاصيل للوقوف أمام بعض الأحداث ذات العلاقة في قضية القتل. يبدأ هذا المشهد بالتفصيلة المهمة التالية : لقد بدأ الترويج لقضية الدواء (السام) لتفسير “لماذا أبعد الوزير فتحقق عند ذلك ما أراده صدام” : أن يُقال الوزير الذي صنع نفسه بنفسه من خارج التصنيع الصدامي ثم حقق الكثير من الإنجازات التي تجعل مهمة النيل منه صعبة بما يوجب أنْ تأتي الإقالة مقنعة لكونها تأسست على سبب هام ومثير.
وحتى تجري إقالة وزير ناجح فلا بد إذن أن تكون هناك أسباب مهمة لهذه الإقالة. ونتيجة للود المفقود بين الرئيس ووزيره, والحسد من تاريخه وإنجازاته ومتانة موقعه الاجتماعي, فإن الإقالة كان يجب أن تتم بالطريقة التي تأكل من سمعة الوزير الجميل, أي أنْ يخرجَ الوزيرُ قاتلاً وينالَ أيضاً ثمن اعتِدادِهِ بنفسه, والأهم أيضاً أن يكون درساً للآخرين الذين يتجرأون على (أسيادهم) في العراق الذي تقرَّر أن يكون (عراق صدام حسين وحدَهُ لا شريكَ له!).
على أنَّ الإتيان بتلك التهمة الكاذبة لم يكن قد تمَّ إلا بعد (هفوة) قتل الوزير التي لم يكن مخططاً لها في الأصل, والتي وضعت الرئيس في الموضع المحرج أمام العالم ودفعته إلى إطلاق مجموعة الأكاذيب التي سطرها الواحدة بعد الأخرى في شريطهِ المُتلفَز. فالوزير حسب الرواية الصدامية كان أبْعِدَ من الوزارة لأنه استورد مادة سامة ! أما قتله فكأنه جاء تنفيذاً (لعقوبة اعدام قانونية) وذلك بسبب تعمّدِه قتل الجرحى العراقيين !!. هذه التهمة الأخيرة تم اختراعُها بعد حادثة القتل التي لم يكن مخططاً لها بالأساس, لكن حينما حصل القتل كان لا بد من مجموعة أكاذيب لفبركة أسباب عملية القتل. فما الذي حدث حقاً وأدى إلى ذلك.
وقلت إنّ استيراد الدواء لم يكن خطأً بالاصل اعتماداً على الإيضاح المهم الذي تفضل به مشكوراً الأستاذ الصيدلاني زهير شريف الذي كان مديراً للمذخر الطبي المركزي المسؤول عن استيراد الدواء والذي قال فيهِ إنّ عملية الاستيراد قد جرت تبعاً للسياقات المتبعة.
الجديد في الأمر أن تركيز البوتاسيوم كلوريد في العبوة كان قد اختلف هذه المرة لاختلاف دولة المنشأ (فرنسا) مما استدعى اصدار تعميم مرفق لتوضيح ذلك. وستكون مسؤولية الطبيب المعالج أنْ يَحسِب حجم المطلوب حقنُهُ تبعاً لتركيز المادة في العبوة, وقد حدثت الوفيات نتيجة إهمال (نسيان) الطبيب المعالج قراءة التعليم المرفق وليس لسُمّية المادة أو لخطأ استيرادها.
الدكتور النعمان, ونتيجة للوفيات التي حدثت لبعض مرضاه أثناء العمليات الجراحية التي كان يقوم بها في مدينة الطب في بغداد رفع كتاباً لوزير الصحة تضمن شكواه من الدواء وإذ ذاك طلب الوزير على الفور سحب الدواء وإيقاف استعماله لحين التحقق من الأمر. لكن الأمر مع صدام لم يكن قد شفع له فاصدر سريعاً قرار إقالة الوزير وكأنه كان في انتظار أول (هفوة !!). أما الوزير فلم يحتج أو يتأفف أو يستأنف وكأنما جاء قرار الاقالة مثل فرصة ثمينة للتخلص من أعباء وتبعات العمل مع صدام حسين الذي كان يتعامل مع وزرائه مثلما يتعامل الراعي مع القطيع. وربما تناهى لصدام عدم اهتمام د. رياض بقرار الإقالة وانصرافه للعمل في مجال اختصاصه فأغاضه ذلك أشد الغيض وكأنما أغضبه أنّ رياض خرج منها سالماً بدون عقوبة صارمة.