تحقيق

سيرة ذاتية.. مقتل وزير*(3)..امتعاض صدّام من نتيجة التحقيق برئاسة سعدون خليفة التكريتي!!  

                          بقلم: د. جعفر المظفر

      ولم يكن الشهيد رياض بمنأى عن معرفة صعوبة السير في حقل الألغام الذي وجد نفسه فيه بعد إزاحة أحمد حسن البكر واحتلال صدام للمكانة الأولى في قيادة الدولة والحزب, لذلك كان الرجل على معرفة بما يُحيطه من مخاطر, غير أن حذره لم يغير قدره, فظل غير ميّالٍ للتخلي عن صراحته في العمل المهني والحزبي الأمر الذي جعله مشروعاً للإقصاء المؤجل بسبب اعتزازه بتاريخه وكفاءته, فالرجل كان قد منحته دائرة الصحة العالمية جائزة الأفضل من بين وزراء الصحة في الشرق الأوسط نتيجةً لتميزه في تطوير الخدمات الصحية في العراق, وقد شكل مع وزير التربية وعضو القيادة القطرية الشهيد محمد محجوب ثنائي النجاح الجميل بعد أن أفلح هذا الأخير بتحقيق إنجاز القضاء تماماً على الأمية في العراق.

ولقد قُتل الشهيد محمد محجوب عضو القيادة القطرية للحزب ووزير التربية بعد اتهامه بالمشاركة بما سمي وقتها بالمؤامرة السورية مع أربعة آخرين من أعضاء القيادة القطرية المتهمين وعدد ملحوظ من كوادر الحزب المعروفين بقدم انتمائهم للحزب, وهي المؤامرة الكِذْبة التي راح ضحيتها أيضاً الشهيد العظيم عبدالخالق السامرائي مع عددٍ كبير من الكوادر الحزبية المتقدمة في قائمة ضمت أيضاً الشهيد مرتضى سعيد عبدالباقي العضو السابق في القيادة ووزير الخارجية قبل إقصائه وتعيينه سفيراً للعراق في موسكو وصولاً إلى قتله في السجن مع الشهداء الاخرين المتهمين بمشاركتهم في المؤامرة الكذبة.

أما الذي قيل لتفسير عملية إقصاء وزير الصحة وقتله بدعوى اقتراحه تنحي صدام مؤقتاً من مناصبه كاستجابة لشرط الخميني الذي قيل إنه تقدم به لإيقاف القتال, فهي قصة لا تملك مقومات الصحة إذا قرأناها على ضوء معرفتنا بصفات الشهيد, فالرجل كان عالماً بميول صدام الإجرامية كما أن صراحته كانت بعيدة عن المغامرة والتهور.

وأتذكر ان آخر ما جمعني فيه هو استدعاؤه لي بعد فصلي من الحزب حيث جلست معه في غرفته للتداول بشأن المركز الصحي الذي ترك لي حرية اختياره بعد نقلي من الهيئة التدرسيسة لكلية طب الأسنان إلى ملاك وزارة الصحة وبعد أن أنهيت فترة عقوبة التجنيد في قاطع حنين الذي تشكل من أكثر من مئتين وثلاثين بعثياً من كوادر الحزب, والمرسل للقتال في الحجابات المتقدمة على أمل ان تتكفل الحرب بإنهائنا.

وبعد أن وضع توقيعه على كتاب التعيين كانت نصيحته لي حينها أن ألزم جانب الحذر لأن الكلمة كما قال هي الآن بألف, ومؤكداً على أني سأكون مُراقباً وذلك لمعرفة رد فعلي على قرار الفصل وحتى لا أنتهي سجيناً في الدوائر الأمنية أو حتى مشروعاً للإعدام. لكن الأمر الذي وجدت نفسي فيه كان أصعب من أن تردعه تلك النصيحة إذ سرعان ما وقعتُ في الفخ.

هناك في حجابات المعارك حينما يتراجع كثيراً الأمل بعودتك حياً وحينما يزداد حنقك على الظلم والظالم فإن الكلمات لا بد وأن تخرج من فمك دون انتظار الموافقة. ولم يكن متوقعاً أن تفوت الدوائر الأمنية والمخابراتية فرصة إرسال بعض عناصرها من أولئك الذين لعبوا بكل خِسّة أدوار المُعاقَبين حتى يكونوا عيناً شاهدة على تصرفاتنا وأذنا تتلقط المتساقط من أقوالنا.وسأروي ما حدث لي بعد أن القت الدوائر الأمنية القبض علي بحجة تناولي لسيرة صدام بكلام غير لائق وذلك في فصل خاص.

لكني سأكتفي هنا بالقول أن الواشي الذي كلف بمتابعتي كان وضع نفسه في المجموعة التي ضمتني في أحد فصائل قاطع (حُنَيْن) وافترضت أنه أصبح صديقاً مقرباً مني حتى بعد عودتنا من جبهات القتال.

وقد كان هذا الصديق المفترض (ف.ز) من الأخوة الفلسطينيين وعمل بعد عودته في عمارة الحياة الشهيرة لكونها احدى الدوائر العائدة لجهاز المخابرات العراقية التي تضم سجناً خاصاً, وقد عاد للحزب كعضو قيادة شعبة بعد رجوعنا مباشرة من الجبهة في منتصف عام 1982, وظل يزورني في عيادتي بالمنصور الكائنة وقتها فوق مثلجات الروشة مع صديقنا الفلسطيني المشترك (محمود) الذي دعانا عائلياً إلى وليمة في بيته وذلك بعد عودتنا من الجبهة, وقد أخبرني محمود أن الواشي كان هو نفسه ذلك الصديق المشترك (ف. ز) الذي تعطل لحسن الحظ جهازه التسجيلي فاكتفى بكتابة تقرير تناول فيه بعض ما دار بيننا من أحاديث كنت أعتقد أنه كان يشاركني بؤسها وألمها نتيجة وجودنا نحن الثلاثة وقتها في حجابات القتال حيث المسافة التي كانت تفصلنا عن الجنود الإيرانيين لم تكن قد تجاوزت في بعض المرات أكثر من ثلاثمائة متر.

وحين نعود إلى الحديث عن مقتل الوزير فإنما أصل الرواية هي تلك التي رواها لي الدكتور سعدون خليفة الذي يتذكره العراقيون رائداً في مجال الصحة والوقاية المجتمعية من الأمراض المعدية والوبائية ورئيساً لقسم الصحة المجتمعية في كلية الطب التابعة لجامعة بغداد وقد كانت على الشكل التالي :

إن وزير الصحة البديل الدكتور صادق علوش كان اختاره عضواً في لجنة تحقيق ثلاثية شكلها بأمر من الرئاسة وقد ضمت الدكتور ابراهيم النوري وكيل وزارة الصحة اضافة إلى المدير العام في الوزارة الدكتور خلدون درويش, وقد انتهت اللجنة إلى قرارات أكدت على أن الدكتور رياض قد تابع بكل جدية الكتاب المرسل إليه من قبل الرئاسة حول عبوات (البوتاسيوم كلوريد) والذي يشير إلى أن هذا الدواء (ذا التركيز الأكثر مما يجب) قد تسبب بمقتل العديد من المرضى العراقيين. وفيما بعد ظهر صدام حسين في شريط مصور وهو يؤكد على أن كثيراً من الجنود العراقيين الجرحى كانوا قد ذهبوا ضحية لهذا الدواء في حين أن ذوي العلاقة يعلمون بأن مديرية الطبابة العسكرية تقوم بإستيراداتها الخاصة التي لا علاقة لها بوزارة الصحة وأن الجنود العراقيين الجرحى تتم معالجتهم في مستشفيات عسكرية تابعة لوزارة الدفاع !

وظهر للجنة الثلاثية أن الوزير المقال الدكتور رياض قد قام بتعيين الدكتور جواد العبودي المفتش العام في وزارة الصحة لمتابعة سحب الدواء على الفور, وقد بذل الرجل جل جهوده لسحب كل الكميات من مذاخر مستشفيات وزارة الصحة. أما رد فعل صدام حسين بعد أن قرأ مطالعة اللجنة وقتها فكان مثيراً للإستغراب إذ أبدى امتعاضه من مطالعة الدكتور سعدون حيث ألقى بملف التحقيق جانبا فلقد كان يتوقع منه إدانة د. رياض وليس الثناء على دوره الخاص بمتابعة الأمر الرئاسي وتنفيذه من أجل سحب الدواء ومنع استعماله. بالنسبة لي ذلك يؤكد قناعتي ان صدام حسين كان متحفزاً لإدانة رياض وتبرير اقالته من الوزارة رغم نجاحاته الواضحة على صعيد تطوير الخدمات الصحية في العراق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من مذكرات المفكر، د. جعفر المظفر، المعنونة (في ضيافة المدافع).

مقالات ذات صلة