“سيرة ذاتية”..مقتل وزير(2)*..”اغتِيل ثانية بفرية التعاون مع خميني!!
بقلم: د. جعفر المظفر
عام 1976عدت إلى بغداد مدرساً في كلية طب الأسنان بعد أن حصلت على الشهادة العليا من جامعة نيويورك في بفالو. فوراً صدر قرار حزبي بـ”تفرغي” لأعمال مكتب الطلبة والشباب في القيادة القومية للحزب إضافة إلى عضويتي في اللجنة الثقافية المركزية للمكتب الثقافي الذي كان يترأسه صدام حسين وينيب عنه طارق عزيز, على أنْ أُمْنحَ فرصة العمل كتدريسي ثلاثة أيام صباحاً.
بعد عامين طُلب مني معاونة الدكتور رياض لإدارة منظمة (العمل الوطني) المركزية المعنية بمتابعة ربط التدريسيين المستقلين في وزارتي التعليم العالي وكذلك الأطباء في وزارة الصحة. سألتهم تغيير الأمر كوني متفرغاً لأعمال مكتب القيادة القومية, الطلبة والثقافي, لكنهم شرحوا الأمر كالتالي : لما كان الوزير منشغلاً بمتابع شؤون الوزارة ولسفره المتواصل خارج العراق فإن وجودي إلى جانبه لإدارة منظمة العمل الوطني ضروريٌ لأنّ صفتي المهنية والتدريسية والحزبية والثقافية تجعلني أكثر أهليّة من غيري لتحمل المسؤولية في هذا الوسط المتميز.
وهكذا جمعتني الأيام مرة أخرى مع الشهيد الدكتور رياض في علاقة حزبية وشخصية وثيقة وصارت لي فرصة اللقاء به أسبوعياً كما عدت للتواصل الأخوي الشخصي مع الدكتور الصيدلاني المرحوم صباح يوسف الذي عين مستشاراً للوزير ومديراً عاماً للعديد من مؤسسات الوزارة وفي مقدمتها رئاسته للمؤسسة العامة للأدوية والمستلزمات الطبية التي دخلت على خط قصة الاغتيال بصفتها الجهة التي قامت باستيراد الدواء التي فبرك صدام حسين قصته, وقدمها لوسائل إعلامه لكي تكون في ظنه سبباً كافياً مقنعاً لاغتيال الوزير بعد أن اصبحت قصة اغتياله مثار اهتمام عالمي وعراقي.
إن الذي يطلع على الشريط المصور الذي قدم فيه صدام قصته الكاذبة عن الوزير الشهيد سوف تدهشه قدرة هذا الأخير على الكذب والتدليس. وكما قلت فهو لم يكتفِ بقتل الشهيد غدراً في المرة الأولى وإنما قام بقتله مرتين بعد أن إتهمه بالتعاون مع الخميني في قتل الجرحى العراقيين زمن الحرب مع إيران. القتلة الثانية كانت قطعاً شر القتلتين, وأما التفسير الذي قدمه صدام فقد كان شديد الضحالة والبؤس وقد استحق بعد أدائه لقب القاتل الكذاب.
ومن المهم جداً البحث عن تفسير لائق لقضية الكراهية التي كان يشعر بها صدام تجاه الشهيد رياض. أغلب قدامى الحزب جرت تصفيتُهم ولم يبقَ منهم غير أولئك الذين كان صدام بحاجة إليهم لغرض مكْيَجَةِ حزبه الجديد من أمثال عزة الدوري وطه ياسين رمضان . إن صدام كان ينفذ أجندة ذاتية لتصفية أو إزاحة كل من له تاريخ شخصي خارج معمله.
وقد بدأت التصفيات بداية السبعينات باغتيال بعض القياديين البعثيين وفي مقدمتهم الكبير عبدالخالق السامرائي وإزاحة الكثير من البعثيين من ذوي العلاقة بعبدالخالق وفي مقدمتهم الراحل زهير يحيى العضو المرشح للقيادة. لقد كان صعباً تحويل هؤلاء إلى أعضاء في جوقة موسيقية قيادية سيصير أكثر همها التغني به على أنغام (سيدي شكد إنت رائع سيدي) وصولاً إلى (الشمس منين طلعت .. طلعت من العوجة). أما الوجبة الثانية من البعثيين الذين وضع صدام في برنامجه ازاحتهم في أقرب فرصة فقد كانت حافلة بأكثر الشخصيات من ذوي التاريخ الخارج من رحمهم الشخصي وليس من خلال معمل صدام لتصنيع القيادات.
وقد تمت بعد عامين على مجزرة قاعة الخلد تصفية أغلبية من كان قد تبقى من أعضاء الحزب القدامى من غير المصنعين صدامياً, حيث شملت تلك الوجبة نسبة كبيرة جداً من قيادات الفرق والشعب (عددهم تجاوز المائتين وثلاثين شخصاً) الذين لم يتطوعوا في الحرب العراقية الإيرانية بعد أن تم تخييرهم بين التطوع من عدمه, فمرت الخدعة عليهم لأنهم لم يتوقعوا وجود نيات غدرٍ مبيت بذلك الشكل.
وأتذكر أن ثمة من نقل إلى صدام أن الشارع العراقي بدأ يتحدث عن حزبٍ بات مفرغاً تقريباً من أعضائه القدامى بحيث ظل محصوراً بأولئك الذي صنعهم صدام فخرج علينا هذا الأخير بمسرحية تكريم البعثيين من أصحاب التاريخ البعثي الذي تتجاوز سنواته الخمسة وعشرين عاماً فما فوق. وقد شمل (التكريم) كثيراً من البعثيين الذين لم يقضوا حتى أقل من نصف الفترة. والفكرة من وراء مسرحية التكريم كانت واضحة, وهي أن يرد صدام على الإتهامات التي بدأت تسود لدى أغلب العراقيين بشأن وجود نيّات صدامية مبيته لإبعاد كل بعثي قد لا يقدم ولاءه لمن لا يشعر بأنه ولي نعمته. وهكذا وضع صدام حزبه في مدار الكذبة الدوارة المغرقة بالتزوير الأخلاقي, فهو الذي صنع الكذبة ثم طلب منهم أن يكون جزءاً منها بعد أن صار لهم فيها نصيبٌ ومنفعة.
إن رياض الحاج حسين كان مشروعاً لإزاحة مؤجلة. يكفي أنه لم يكن من رجالات الرئيس. لقد كان من أوائل المنتمين إلى حزب البعث وعاد بعدها ونجح في الحصول على شهادته كطبيب من جامعة بغداد ثم على شهادة الاختصاص بطب العقم من إنكلترا.
وقد جاء تعيينه وزيراً بإرادة الرئيس المُقال أحمد حسن البكر وبتوصية من وزير الصحة الأسبق الدكتور عزة مصطفى, لذلك أصبح شخصياً في مقدمة قائمة الإقالات وربما الاغتيالات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فصل من مذكرات المفكر، د. جعفر المظفر، المعنونة (في ضيافة المدافع)