سوسيوليوجيا عراقية[5]..”حُبُّ السلامةِ فيها أرذلُ السُبُلِ”!!
فليستعمرنا التُركُ السلاجقة من جديد، طغرل بيك، أو ألب أرسلان، أو حتى قبيلتا “قره قوينلو” أو “آق قوينلو”، يقاسمهم أشلاءنا الفرس البويهيون، أحفاد كسرى أنو شروان، أو كسرى هرمز، أو أحفادُ أبي لؤلؤة المجوسي، أو حتى الصبّاح زعيم الحشاشين، وليُغلِلْ أعناقنا، وأيدينا الإسرائيليون أحفادِ بني النضير، وبني القينقاع، وبني قريظة، وغيرهم، وليركب ظهورَنا كالحمير، والبغال، الأميركانُ، والانكليزُ، والفرنسيون, والإيطاليون، وغيرُهم من أحفاد الرومان والإغريق والبيزنطيين، ما دُمنا مستسلمين لأعدائنا، منخدعين بخَونَتِنا، خانعين لفاسدينا، وعُتاة مجرمينا!.
لنعُد كما كُنّا قبائلَ شتّى متناحرةً، يقتُلُ بعضها بعضاً، لنعدْ إلى الغدرِ، والبغضاءِ، والكراهيةِ، والفجورِ، والتخلّفِ.. لنعُد إلى السيفِ، والخِنجر، والقوْسِ، والنشّابِ، والرمحِ ، والفرسِ، والدرعِ، وأكلِ ما جشُبَ من الطعام..بل لنَعُدِ إلى الخيمةِ، والاكتفاءِ بقرظِ الشعر، وحلبِ الناقةِ، والبحث في الصحراء عن يربوع، أو أرنب وحشي، أو عن أفعى نسلخُ جلدها ونأكلها، أو نصطاد الضِّباعَ، والزواحف، فإنْ لم نجدْ ذلكَ، أكلنا لحمَ أخينا ميّتاً!.
إنسوا وطنياتكم، إنسوا عروبتكم، إنسوا قوميتكم، بل إنسوا إسلامَكم، إنسوا المروءة، والشجاعة، والفروسية، والجود، وكلمة الشرف، والتقوى، وما اتصل بكل ذلك من “أخلاق العرب”، عودوا جاهليين، كما كنتم، ارجعوا إلى حاناتكم، التي تديرها راحيل، وشيرا، وراشيل..اتركوا الكعبة المشرّفة، والمدينة المنوّرة، وتنكروا لدينكم، وعودوا القهقرى إلى هُبلَ، ومناةَ، والّلات، والعُزّى، وطاغوت، وودّ، وسِواع، ويعوق. اسجدوا لها، وارجعوا لأزلامكم، وقِداحكم، ولا تنسوا أسواقكم، عكاظَ، والمِرْبدَ، وهَجَرَ!.
عيشوا عبيداً، أقناناً، شراذم، يسومُكم سوءَ العذاب، كسرى الفرس في حِيرة المناذرة، وهرقل الروم في شامِ الغساسنة، عودوا حميريين، وسبئيين في بلاد اليمن السعيد، تلك التي صارَ “عاشقاها السِّلُ والجرَبُ”!. ما لكم وما للحضارة والمدنية، بعد أنْ فقدتُم آخر الخيوط بجذوركم الدينية الأصيلة، وبمعاييركم الأخلاقية..عيشوا على “تقاليد” الفيسبوك والوتصب والتك توك، مكتفين بروتين تهاني الجُمُعات، مستئنسين بـ”بوستات الفيسبوك” تحوّلونها آناءَ الليل وأطرافَ النهار، بضائعَ موتى، أو أمانيّكم الباهتة التي تتبادلونها كأنّ الدنيا بأيديكم، وما أنتم إلا بيادق في رقعة الشطرنج، يُلعبُ بكم، وعليكم، ومن أجل “هلاككم”!.
***
لقد ضاعَ العمرُ في “الخالي بلاش”. ذلك هو المنقلبُ السَّيءُ!. وكان الجواهري الخالد يقول “وآسف أنْ أمضي ولَمْ أبقِ لي ذِكرا”. لعلمه طبعاً بوخامةِ مثل هذه النتيجة على كل قلب نبيل في تطلّعاتهِ الاجتماعية، الإنسانية. لهذا ما “أغْشَمنا”، عندما “كنّا” نثق بالأيديولوجيات، والأحزاب، والقادة السياسيين، والمفكّرين السياسيين، ومنهم من ظللنا لزمن طويل لا نرمقهُم إلا بنظراتِ التبجيل، والتقديس، حتى لكأننا “نعبدُهم” بعدَ الله جلَّ وعلا!.
ضاع العمرُ في “قشمرياتِ” الأزمنة الموشومة بالخرافات، والخزعبلات، والكلاوات، وبكل ما له علاقة بـالعناوين “الماسخة”، وبالألقاب، والنياشين، والمناصب، والرُتَبِ، والأسماء الرنّانة. وُضِعنا في خِضّم أدب لا يرفعُ ذِكرَ صاحبهِ، وعِلْم لا يضرُّ ولا ينفعُ، وشهاداتٍ مزورة، وسيراتٍ كاذبة، و”سيڤيات” لشخصياتٍ لا تساوي في قيمتها الحقيقية، ثمنَ الحبر الصيني الرخيص الذي كُتبت به!.
ضاع العمر، بالمكارهِ، والأحقادِ، والتنابزاتِ، والمظالم، وبكل ما يَنتمي في جذوره الى “باطنية” الأرواح الميّتة، و”دفائن” النفوس التي تراكمَ عليها صدأ الحرمانات في أنماط سيرورة “طايح حظها” جداً، لأنها لم تتخلص من “قِنانتها”، وخضوعها لفرمانات الجزء المظلم في الماضي، لا الجزء المضيء الذي يُنزّه الأرواح النبيلة عن مساوئ الضغائن، والإحن، والحزازات، أكانت طائفية، أم عرقية، أو دينية، أو سياسية، أو مناطقية، أو عائلية، أو لأجل عبادة فرد من الأفراد، لم ينزلْ بهِ وحيٌ، ولم يوصِ به ملاكٌ مُرسلٌ من السماء!.
إبقوا هكذا، لا غنيّكم أفلحَ بِحُرّ ماله، ولا فقيركم نجا برغم حرمانِه!. لقد أمعنت “آلة السياسة” في “العدوان” على حياة هؤلاء، وهؤلاء. أجرمت في الَّلعب بكل مصائر الأغنياء، وأحالت حيوات الكثيرين منهم الى “مكائن وحشية” تنهبُ، وتسلبُ، وتخون، وتتآمر، ولا ترعى ذمة، أو تحفظ مقصداً. وفي الوقت نفسه لم تترك الفقراء على حالهم، بل زادتهم حرماناً، وجوعاً، وأذىً، فجعلت الكثيرين ينجرّون الى ما لا يرُضِي، ولا تطيب معه نفسٌ، ولا قلبٌ، ولا وجدان!.
ربما ظن قارئ هذه الكلمات، أنّني اليومَ في أسوأ حالات المزاج النفسي، أو أنني “محبط”، أو أعاني من “روح انهزامية” حيال عمر تقضّى بالمتاعب، والويلات، والمصاعب، لكنّ هذا الظن -وإن شاء الله أكون صادقاٌ- ليس في محله، فأنا “طبيعي المزاج”، ككل يوم أجلس فيه الى صفحة “الحاسوب” لأكتب أو لأقرأ.
الجديد أنّ تلفوناً من صديق وزميل عزيز، صدمني بخبر “خصومة” بينه وبين صديق له، طال على حبّهما “سالف الأمد” في “عِشرة عمر” يكاد طولها يناهز أربعةَ عقود من الزمن. تُرى، أبعد كل هذا العمر، “خصومة فجور” بين صديق وصديق؟.. ما أرخص التواريخ، وما أخسّ المصائر، وما أذلّ النفوس التي أصبحت قادرة على “نسف” عقود من الصداقة، والإخلاص، والوفاء، والمحبة، والعشرة الطيبة، بـ”زلة لسان”، تحوّلت الى حدِّ سكّين، يقطع “حبلاً متيناً” ربط بين عمرين، وعالمين، وعقلين، وقلبين، وتاريخين!.
ما أدق الجواهري الخالد، وهو يدين “تواريخنا الزائفة” بقوله الشهير في قصيدته “يا ابن الثمانين” :
“لا تنسَ أنك من أشلاءِ مجتمع…يدين بالحقد والثارت والدّجل”.
لكنّه في القصيدة نفسها يتحدّى هذه التواريخ أيضاً بقوله: ” إن الحياة معاناةٌ وتضحيةٌ…حبُّ السلامةِ فيها أرذلُ السبلِ”!.