سوسيولوجيا (18): فلـ”تشربْني” الجحيم إنْ “شربتُكِ” أيّتها “المعشوقة” اللعينة!



لم يبقَ منها سوى الذكريات، فزُهاءَ ستّين سنة، وأنا أموتُ في “دباديبها”، وفي دفئها، ولذاذةِ طعمها. لم أفارقها ساعةً، ولم تفارقني، إلا في ساعات النوم. ظللنا حبيبين وفيّين، أنا أبذل لها المالَ والعافية، وهي تمدّ لي يدَ العون كثيراً في “أمْزجَة” أوقات الكتابة والقراءة. ثمَّ أنها تداعبُ شفتيَّ كأنثى دخانٍ ساحرةِ الطلّة، ، فتتسلل الى رئتي وقلبي وكلِّ خلية في جسدي، بمُتعتها الناشبة في الروح قبل الجسد.
(عندَ هذه السطور الّتي كنتُ أقرؤها عبر الهاتف لصديقي الدكتور هاني عاشور، فاجأني بقوله: دَعْني أمارس لذاذتي مع واحدة إذن).. لقد عَرَفَ من فوره ما كنتُ أتحدّثُ عنه!.

أعودُ فأقول: لقد خاطرتُ ذاتَ يوم، وأنا في رحلة طويلة بالطائرة من عمّان الى مونتريال الكندية، فأدخلتُ السكائر معي الى الحمام، كي “ارتشف” من رحيقها شيئاً. كان من الصعب عليّ مفارقتها لثلاث عشرة ساعة من دون أنْ أقبِّلَ تلك الشفاه التي يأخذني سحرُها، حتى لكأنّني أطيرُ في سحابة من دخانها السرمديّ!.
ولا أكتمكم، أنني لمرة ومرتين وثلاثاً، وربما أكثر أمعنتُ في حبّها، فأوقعني ذلك الإمعان “شديدُ اللذة” في وَهْداتِ عِلل لم أقوَ على مغالبتها إلا بشقّ النفس. وآخرها كادت هذه المعشوقة، الجميلة التي لا تملُّ عيناي مرآها، والتي لم تفارقني لستين سنة كما قلت لكم، تُجهزُ عليّ، لكنّ رحمة الله كانت أوسع من كل شيء، فألهمني “فراقَ المعشوقة” التي ليس من السهل على أحد “فراقُها” أو “مفارقتُها”، حتى ليقال “مَزْحاً”: إنّ ميسانياً عاشقاً، سُئل عن سبب إصرارهِ على حبّها، برغم أذاها، فقال: “كيف أترك چتال أبوي”!.

تلك هي السيكارة “المعشوقة-اللعينة” التي سبق أن اتفقنا أنا وأحد الأصدقاء على تركها، قبل سنين طويلة، ففاز بذلك لفترة قصيرة، وخِبْتُ أنا، ثم عاد إليها، خاضعاً، بحجة أنّ “الحياة في العراق ما تنعاش من دونها!!”. وثمة تقرير نُشر في بغداد قبل ما يقرب من عشر سنين، أكد أن “ارتفاع نسبة المدخنين في العراق إلى نحو سبعة ملايين ونصف المليون مدخن، وأن حجم الاستهلاك السنوي وصل إلى ما يقارب المليار علبة سجائر،أي بواقع 1200 سيجارة لكل فرد”. لا أعلم من أين أتى التقرير بهذه الأرقام، لكنني استأنستُ به، لأهمية المعلومات التي يمكن أنْ تكون الآن قد ازدادات كثيراً!!.
هذه الكارثة، هي في الحقيقة عملية انتحار جماعية، ما فتئ يشارك فيها كثيرون من أصدقائي، الذين آسف أنّهم لا يقوون على التخلّص من ربقتها!!. أقول: ثمة كثيرون ممّن أعرفهم قضوا نحبَهم “انتحاراً” بدخان هذه “اللعينة”، ومنهم مَنْ يصرّون على التدخين، لا يردعهم خوف من سرطان الرئة، ولا أمراض القلب ولا الرئتين. وكنت قد أفلحتُ بإقناع بعض الأصدقاء بتركها!.
أيها المدخنون: كل سيكارة تحتوي أكثر من 1000 مادة سامّة، جميعها يمكن أن يتخلّص منها الجسم، بعد سنتي ترْكٍ كاملتين من دون تدخين ولا تعرّض لدخان آخرين!. ولم أسمع قولاً أجمل من قول الاستاذ حسن العلوي عن السيكارة. “قال إننا نظن أننا نشربها، لكنّها في الحقيقة هي التي تشربنا”.

ومن الجميل، أنْ أذكر مدى تأثير “محمد” أصغر أبنائي فيّ شخصياً، لترك “السيكارة” التي نبذتُها نبذ مُجبرٍ لا مختاراً، بفضل حثّه وتحريضه وتهديدهِ لي بمقاطعتي، إذا وقعت صريع معشوقتي!. كان يقول لي:
“Every cigarette you smoke brings you closer to death. Since I am your youngest child, you are depriving me of years in which I might not see you, because you will leave this world due to your insistence on smoking.”
وبمعناها: (كل سيجارة تدخّنها تقرّبك من الموت، ولأني ابنك الأصغر فأنت تحرمني من سنين قد لا أراك فيها، لأنك ستغادر هذه الدنيا بسبب إصرارك على التدخين!!.
قال لي ذلك، بعد أنْ جرّبت تركها لسنة 2009، بتمامها، ثم أمسكني ابني “محمّد” بجرمي المشهود، أدخّنُ خلسةً منه وخوفاً، وأنا جالسٌ في الحديقة الغنّاء لمقبرة ضحايا “تايتانك” بمدينة هاليفاكس الكندية على المحيط الأطلسي، فخاطبني بلغته قائلاً: “تدخّن وتضحك عليَّ”. قلتُ له: “خوفاً منك يا حبيبي”.. فردّ بقوّة: “تخافني، فتقشمرني”!. ثم عدّتُ القهقرى إلى تدخيني اللعين، المهين!. لكنّني منذ ثماني سنين عددا، لم أقربها!.
لذا أدعو شبّان العراق وشيبه و”نساءه” قبل ذلك، لترك التدخين، والنركيلة، و”المدري شِسمه!!” أيضاً بأنواعه كلها، أي تلك التي تسطّر، وتسطُل، و”تُخنطِل” العقلَ، والقلبَ، والوجدانَ، وتأكلُ الجسد شيئاً فشيئاً، كمال يأكلُ الدودُ جُثّة الميّت!!.
حتى الآن تنتابني نوباتُ “الولعِ” بك يا معشوقة “أيام زمان”، كلما كتبتُ أو قرأتُ، أو ضِقتُ ذرعاً، بشيء، أو بـ”طلايب” الدنيا، لكنّي لا أقربك، فلتشربْني الجحيم إنْ شربتُكِ أيتها المعشوقة اللعينةُ التي لا ترحم، ولا ترقـُبُ في عُشّاقها إلّاً ولا ذِمّة!
