سوسيولوجيا عراقية(3).. ظاهرة “المُتدَيّنين” جداً..و”نزعة العنف”!!
لَمْ يفرز الموروثُ المجتمعي العراقي، “نزعةَ عُنْفٍ”، كالتي كشفتها الحرب الأهلية الطائفية، برغم ميلِ “تيّاراتٍ محدودةٍ جداً” إلى التشدّد في الرأي التاريخي أو الفقهي. يمكن أنْ أعرض فكرتي نفسَها بالقول: مضت في الأقل ثمانون سنة، لم تكنْ فيها ممارسات العنف المجتمعي، إلا بين الفئات السياسية، أو من جانب السلطة ضد العناصر التي تنتمي الى الأحزاب السياسية!.
لم يكن الناس حينئذ “متديّنين جداً”، بالضد مما أبدت لنا قصصُهم، لنحو ثلاثين سنة مضت. ولاحظ الناس في العراق، أنّ العقدَ الأخير الذي سبقَ الاحتلال الأمريكي “نيسان 2003″، اتّسمت سِنيّهُ بثلاثة اتجاهات، لجأ إليها نظام الرئيس صدام حسين،
أولا: السماح لمن يسمّيهم الناس جُزافاً “الوهابيين”، أي “السلفيين” بالانتشار، بعدما كانَ هؤلاءِ ممنوعين قطعياً، كمنع السلطة لحزبي الدعوة الشيعي، والإخوان المسلمين، السُنّي.
ثانياً: “الحملة الإيمانية” كما سُمّيت، وجرت لها تطبيقات في الحزب الحاكم ومرافق الدولة.
وثالثاً: اندفاع السلطة في بناء المساجد، والإنفاق عليها، بسخاء على الرغم من فاقة الناس زمن الحصار الاقتصادي.
طبعاً كان النظام السابق –بضغوط مختلفة- يُعلنُ دائماً وفي كل سنة “الاستنفار الحزبي”، لكي لا يتوسّع الشيعة في ممارسة طقوسهم في مناسبات معينة، أهمها “زيارة عاشوراء”، و”الزيارة الشعبانية”. وفي بحر زمن يقارب الأربعين سنة، لم يشعر المجتمع العراقي، أنه يواجه “ضغوط انفجار طائفي”. كانت هذه المسألة “أي الطائفية”، تقتصر على الاتهامات المتبادلة بين الحكومة وبين الأحزاب السياسية. وحتى الأحزاب السُنّية، كالإخوان المسلمين، كانت تتهم السلطة حينئذٍ بأنها “كافرة”، ويجب إزالتها!.
أقول بافتراض أنّ الأحزاب الشيعية، لم تكن تحاربُ السلطة، أو تنتقد مساراتِها، أو تتهمها بـ”الكفر”، ومحاربة الإيمان..هل كانت ستتعرّض لهجمات أمنية واستخبارية وحزبية قاسية وأحياناً “شديدة العنف”؟.. في ظني “لا”، بمعنى أنّ “الطائفية” لم تكن البُعد الحقيقي للأزمة بين السلطة وبين هؤلاء، إنما هي “السلطة”. تماماً كما “تَحاربَ” اتجاهان شيعيان على السلطة في سنوات ما بعد 2003، أو كما يتحارب اتجاهان سُنّيان على السلطة أيضاً.
وحيالَ كل هذه التصوّرات، نسأل: لماذا يبدو “التديّن الشديد”، وكأنه دافعٌ من دوافع العنف؟..ما الّذي يدفع من كُنّا نعرفهم مسالمين جداً، وقتَ لم يكونوا متديّنين، إلى أن يكونوا متطرّفين جداً، بل ومندفعين بقوة نحو “حلول العنف”، بعد أنْ طالت لِحاهم، وكثرت مظاهر “التديّن” على وجوههم؟!. أجزم –في هذا المقام- أنّ غالبية العراقيين يناقشون هذه الرؤية، ويحاولون أنْ يسبروا أغوار “سر” اندفاع المرءِ نحو “العنف” حالما يُفرط في تديّنه!.
وما زاد الطين بَلّة –في تجربة الديمقراطية الجديدة ببرلمانها وحكومتها- أنّ “التديّن الشديد” لدى طرفي النزاع السُّلطوي، الشيعة والسُنّة، لم يعصمهم من الوقوع في شراك “الفساد المالي”، التي إنْ صح كلامي، ستظل “وصمة عارٍ” في جباه الحركات السياسية المتديّنة الى زمن غير قصير، إذ لا يمكن إزالة ما حُفر في الذاكرة العراقية من قصص الفسادِ التي لا ينفع معها لا مظاهر تديّن، ولا عمائمُ سودٌ، ولا عمائمُ بيضٌ، ولا خُضرٌ، ولا من أيّ لونٍ أو قِماشةٍ!.
لا يمكن العثور على تفسيرٍ تحليليّ لهذه الظاهرة إلا في نطاق اتجاهين، الأول: الخلل في (بِنية النماذج) التي كانت “تُهرع” في أزمنة معينة للنشاط الديني. والثاني: متغيّرات المنطقة الإقليمية، ونشوء بؤر الصراعات الطائفية في عدد من البلدان المحيطة بالعراق.
وربما يكون للحديث صلة.