سوسيولوجيا عراقية(2)..لا نوري السعيد “قندره” ولا صالح جبر “قيطانه”!!
في جلسةٍ خاصّةٍ، جمعتني وصديقين عراقيين عزيزين في مكانٍ بـ”آخر الدنيا” تقريباً، أي على مقربةٍ من أدنى نقطة للقطب الشماليّ، وبرُغم هذا البعد، كان العراق وما يجري فيه محورَ الكلامِ. كنّا نتحدَّثُ بشفافية عاليةٍ جداً، برغم أننا من بيئاتٍ متباينةٍ، وبأعمارٍ متفاوتةٍ، وثقافاتٍ تكادُ تكون لا صلة بينَها من حيثُ البُعدين الفكري والسياسي.
أحدُ الأصدقاء أطْلعَنَا في موقع بالإنترنت على مقالةٍ مطولةٍ نُشرت تحت عنوان (شذرات وأضواء عن النكتة والفكاهة والسخرية في العراق منذ العهد القديم الى يومنا هذا)، بقلم سرور ميرزا محمود أردلان، وهو شخصية علمية-أدبية، يعيشُ في شارقةِ الخليج منذ عقودٍ، ولِدَ في محلّة هيبة خاتون بالأعظمية، وعملَ مديراً عاماً في منظمة الطاقة الذرية، أيام كان للعراق “طاقة”!!..
المهم،..قرأ لنا الصديق نصّاً ساخراً من مقالة ميرزا يقول فيه: في العهد الملكي، كانتِ النكتةُ والتشهيرُ والسخريةُ تُطلَقُ بصورة مباشرة، وإحداها للباشا نوري السعيد السياسي المُحنَّك، رجلِ المواقف، وصاحب النكتة والسخرية، وهي كما نُقِلتْ: ” وقعت أزمةٌ وزارية في العراق في الأربعينيات وكَلّف القصرُ أكثر من شخصية بتأليف الوزارة ولكنَّ الخلافاتِ خاصةً داخلَ البرلمانِ كانت تُفشِلُ كلَّ رئيسٍ مكلّفٍ، وكان رئيس الوزراء المستقيل يومها نوري السعيد على رأس حكومة تصريف الأعمال أو حكومة مصطلح (راجياً أنْ تبقوا في مناصبكم حتى تشكيل حكومة جديدة)، وبعد أسابيع وقفَ نوري السعيد في جلسةٍ للبرلمانِ وقالَ لهم: “بابا ماكو فايده ، لو القندره لو قيطانها” وكان يقصدُ أنّهُ لا تُوجد فائدةٌ من استمرار الأزمة لأنّهُ في النهاية لا يمكن النجاح بتشكيل الحكومة إلّا اذا كان رأسُها القندرة أو قيطانها، وكان نوري السعيد يُردّد ما كانت تهتفُ به الجماهير العراقية تلك الأيام في المظاهرات: “نوري السعيد القندره ، وصالح جبر قيطانها”، بتحريض من الشيوعيين طبعاً، فهم الّذين كانوا يقودونَ الشارع حينئذٍ!!.
هذه الواقعة الساخرة رُبَّما لا تكونُ غريبةً على مسامع العراقيين، فهم يَعرفون الكثيرَ عن الطرائف السياسية والاجتماعية التي تُروى عن نوري السعيد تحديداً، وعن عديد الساسة العراقيين المشهورينَ بـ”دُعَابتهم”، أو لنقل بـ”خفّةِ دمهم”، برغم كل ما يروى عنهم من قضايا كانت تسمى “انحرافات”، لكنّها بالقياس الى ما نعرفه عن ساسة اليوم، تُعدُّ –ولا شك وعند الكثيرين من العراقيين- امتيازاتٍ أخلاقيةً أضحى توفّرُها الآن من المستحيلات.
حاولنا نحنُ الثلاثة، العثور على “طرائفَ سياسيةٍ” من “خَلْقِ” هذا الزمن الكسيفِ، تُوحي بِخفّة دم بعضِ سياسيّينا، فلم نجد في مواقع الانترنت وفي “اليوتيوب” خاصة، إلا ما يُضحِكنا على “قشمرياتٍ” صدرت عن هذا، أو ذاك، وبطريقة تكاد تكون “مخزية”، ذلك أنها لا تنسجم أبداً لا مع الشهادت التي يزعمون حَمْلَها، ولا مع المناصب التي يتولّونَها، ولا مع تاريخ “سِرّي” طالما “خَبَصوا” الدُنيا به، وبالحديث عن تضحياتٍ في الغرباتِ أو في المهاجرِ، لم نعرف من تفاصيلها ما يعني شيئاً مهما!.
سبحان الله، فالمرحلة “خـُواء” حتى من جمالياتِ “السخرية” التي كانت تتمتع بها عهودٌ مضتْ في هذا البلد العجيب الذي يكادُ يفقد –لطول مآسيه وعمقها- إحساسَهُ بجمال النكتة السياسية الفاضحة لكلِّ ضحالة!.
صدّقوني لا “نوري سعيد قندره”، ولا “صالح جبر قيطانه”. الرحمة لهما في جنّات النعيم، أمّا غيرهما من “مساخيط هذه الأيام”، فلهم عذابُ الدنيا قبل الآخرة. ولقد والله جعلونا نكرَهُ الزمنَ بسنينهِ، وأشهرِهِ، وأسابيعهِ، وأيامهِ، وساعاتِهِ، ودقائقهِ، وثوانيهِ، وحتى في أحلامِ منامنا، ويقظتنا!..إنّ الدُنيا في جميع الأزمان كانَ لها “ پريستيج“، وبالإنكليزية “Prestige“، وتعريبها يعني “الهَيْبَة” و”الاحترام” أو “التأثير”، فالحكمُ الملكي، له پريستيج “الكَيَاسة”، والحكم القاسميّ له پريستيج “الشعبية”، والحكم العارفي الأول لعبد السلام له پريستيج “العروبة”، والحكم العارفي الثاني لعبد الرحمن، له پريستيج “التسامح”، والحكم البعثي زمن البكر له پريستيج “الرصانة”، اما الحكم في زمن صدام، فله پريستيج “التحدّي”، الذي أفلتَ “زمامُهُ من يد فارسه”، فانتقلت دُنيا الشرق الأوسط -لا العراق وحدَهُ- إلى الفوضى، والخراب، وتراجع القيم، وتخاذل الزعامات، وانكسار النفوس، حتى لقد يُقال يومياً في جَهْرِ النّاسِ وفي سِرّهم، داخل العراق وخارجَه، ليتَ زمن “القندره وقيطانها” يعود!!.
ــــــــــــــــــــــــــــ