سوسيولوجيا عراقية (17): في بغداد..مازال البحث جارياً عن “نزيه” سياسي!



“على العراقيين أنْ يغسلوا أيديهم بالماء والصابون”.. بهذه العبارة ردّ مسؤول “رفيع” في الحكومة على سؤال وجّهتُهُ إليه عن إمكانية وجود “سياسيين حكوميين نزيهين”، يمكن أنْ ينقذوا البلاد مما جرى لها!. كان ذلك الردّ الصريح، ضمن حوار معمّق وموسع أجريتُه مع المسؤول “رئيس إحدى الكتل السياسية” سابقاً، ولا أجد ضرورة الآن لذكر اسمه. يومها سألتُ الرجلَ : “بِمَن فيهم أنت؟!”..قال مبتسماً “نعم”!!.
لم أنسَ هذا الردّ، ووجدتُ نفسي أروي قصته في غالبية الحوارات التي أجريتها مع “قادة سياسيين”، ورؤساء كتل، ونواب في البرلمان، ووزراء، مستطلعاً رأيهم في مثل هذا الكلام. بعضهم كشف عن “تأييده” من دون تردّد، والبعض الآخر، وصفه بـ”المبالغة”، فيما حشرجتْ “زراديم” آخرين بردود لا طعم لها ولا لوناً ولا رائحة، سوى أنها “قشمرة كلام”، تضرُّ ولا تنفع.
وأذكر أنّ أحد السياسيين المعروفين، قال لي “بل ليغسل العراقيون أيديهم بالديتول”!!. سألتُه “ليش مولانا؟”، فقال: “هذا رأيي، لكنّي أحذرك من نشره باسمي الصريح”.
سيّداتي وسادتي القرّاء: هذا المقال نشرتُه، قبل اثنتي عشرة سنة، وبعد مرور كل هذا الوقت، ما فتئت الطبقة السياسية “فاشلة” في إدارة الدولة، وما برح سطوُها السرّي “المنظم” على ثروات الشعب مستمراً، فضلاً عن تخريب الحال العراقية بما كان فيها من مقوّمات وجود، ووحدة، وإمكانيات تطوير ونماء وازدهار!.
أقول: بعد هذا كله، اتّسعت المشكلة، وتعقّدت، حتى لقد بات الشعب العراقي، نفسُهُ عاجزاً حتى عن “غسل أيديه” من حاكميه وسياسييه وبرلمانييه” ذلك أنّ “الاعتياد”، أو “التكيّف”، برأي “أهل السوسيولوجيا”، قد يُوصل المجتمع إلى التحوّل نحو عدِّ الخراب، والفساد، والتدهور، “وضعاً طبيعياً جديداً”، لا يُغضبُ الناسَ الذين تسرّبَ “سُمّ البلاء” إلى وعيهم شيئاً فشيئاً، بل ولا يثير استغرابَهم، ذلك بفعل ما يسمّيه علماء الاجتماع “التفاعل المعقد” بين العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية!.
ومن الطبيعي، القول: إنّ هذا “التكيّف السلبي”، لا يحدث في نطاق مجتمعنا وحدَه، فظاهرة “الاعتياد”، موثّقة سوسيولوجياً، وتحدثُ نتيجة للتأقلم النفسي والاجتماعي، بدافع “آليات البقاء”!.. إنّ كثيراً من الممارسات الشاذة، يمكن أنْ يجيبك أحدُهم حين تسألُهُ عنها في بغداد بقوله “عادي”.. وهي لفظة صار الناس يسمعونها كثيراً، وآيةُ ذلك أنّ المجتمع استمرأ لعشرين سنة عجزَ الحكومة عن حلّ أزمات الكهرباء، والماء الصالح للشرب، وتردّي حال المؤسسات الصحية، ولا انسيابية السير، وفوضى الأسواق، والطرق. ونحن بهذا نتحدث فقط عن بعض، وعن أبسط ما يمكن أن يتمتّع به المواطن من حقوق.

إنّ الأمر، ليصلُ في مسألة التكيف السلبي إلى ما يمكن أنْ نطلق عليه “تطبيع الانحراف”، والناس في عمومهم يدركون ذلك بحسّهم الشعبي، فيقولون مثلاً (معَلَّم على الصگعات گلبي)، والشاعر يقول: (من يهُن يسهلُ الهوانُ عليهِ…ما لجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ). ثم تلعبُ “اللامبالاة” الاجتماعية إلى تحويل “الشاذ الاستثنائي” إلى “ثابت طبيعي”. ويُنسبُ للفيلسوف الماركسي الإيطالي إنطونيو غرامشي قوله إنّ “الفئات المهيمنة قد تزرع في وعي الناس تصوّرات، تجعلهم يقبلون بالأوضاع السيئة على أنها طبيعية من خلال السيطرة الثقافية والإعلامية”!.
لقد أوصلنا هؤلاء المهيمنون الى مرحلة “اليأس المُطَبّع”، وصرنا أشبه بمن يعيشون في حالة “ضلال عامّة”.
وفي حوار هاتفي سابق مع المفكر السياسي حسن العلوي، قال لي: “لا تستبعد أنْ يعيد الناس انتخاب وجوه كثيرة سائدة، ولو بعد عشرين سنة”. ذلك يعني أن الطبقة السياسية لن تسمح لـ”البديل” بالظهور، إضافة الى أنها تمرّست في الأساليب التي تستخدمها لدفع الناس “لاسيما البسطاء، المغدورين، المسحوقين، وهم الأكثرية” بهذا الاتجاه أو ذاك. وحينئذ سيستغل “جهابذة الطبقة السياسية” كل شيء حتى “الدين”!.
إنّ فداحة، أو كارثية الأزمة العراقية، تكمن في أنّ السياسيين العراقيين “وهي تسمية جزافية لا يستحقونها”، يختلفون على القومية، وعلى الطائفة، وعلى الانتماء السياسي، وعلى أشياء لا حصر لها، لكنّهم مصرّون على “الإجماع” الذي يحمي “الحرامية”، ما دامت لهم كتلٌ تَحظر المساس بهم. وعندما تختنق الحال بأحدهم، فلا أقلّ من أنْ يسمحوا له بمغادرة العراق “هو وما سرق”!.
بعض العراقيين “الآيسين بعمق”، يتمنّون مثلاً أن تتدنى أسعار النفط جداً، فقط لكي لا تكون هناك موارد مالية عالية، فتُسرق، لاسيما بعد أنْ تكنس “الطبقة السياسية” آخر مليار في مخزون البنك المركزي العراقي مع نهاية السنة. عندها -برأي هذا البعض- ستشتغل “عقلية” الطبقة السياسية باتجاه فرض المزيد من قرارات التقشف، و”التقريم”، والتقزيم، والخصخصة، أي بيع ممتلكات القطاع الحكومي، للسياسيين أنفسهم، وربما عمدت الحكومة الى “تنصيف” رواتب الموظفين والمتقاعدين، أي حذف نصفها، بل وتسريح مئات الألوف من العاملين في القطاع الحكومي، لكي تتضاعف جيوش العاطلين عن العمل.
مازال البحث جارياً عن “نزيه” سياسي، فأروناه، لنصفّق له، ونزمّر، ونصفـّر، وندعو له في كل صلاة، بل لنقول فيه ما لم يقله عنترة في عبلة، ولا قيس في ليلى، بل ما لم يقله فرهادُ بشيرين، طبقاً للميثولوجيا الكوردية!.
