سوسيولوجيا عراقية (16-الجزء2) صدمة اختلاط الوهم بالحقيقة!!



(4)
كُنّا تحدّثنا في الجزء الأول عن ثلاثة خيوطٍ في مُشْتَبَكِ “فقدِ الأبِ لابنه”، أولُها ما بينهما من فضاءِ أواصر شتّى، لا نهايةَ له، وثانيها “الذكريات”، ثم ثالثها “تذنيب الذات”، ونحنُ في رابع هذه الخيوط، نتحدّث عن “صدمةٍ” من نوعٍ استثنائي، يختلط فيها الوهم بالحقيقة، الوعي باللاوعي، النفسي بالاجتماعي، إنها “صدمة” إحساسِ الأبِ، أنّ خللاً ما اكتنف مسار “حياته الطبيعية”، فالأمرُ المعتاد عندَه أو عند غيرهِ، أنْ يكون ميقاتُ غيابِ الأبِ قبلَ ابنه، وحين يحدث العكس، يشعر الأبُ، أنّ هناك خللاً ما في “قانون الحياة”!.
ولهذا يبقى الأبُ حبيس دوّامةٍ من الاكتئاب، تُوقعه في اضطرابات نفسيه، تمنعه من تصديقِ ما حدثَ، وهذا ما يحوّل الأب إلى ما يشبه “كومةِ قشّ” قابلة للاشتعال في كل حين، فهو يحترق، إنْ سمِعَ صوتاً يشبهُ صوت ابنه، أو نودي باسمه، أو شمَّ عطراً يشبه العطر الذي يستخدمُهُ، ولذا يظلُّ الابنُ ملتصقاً بأبيهِ في أيّما حركةٍ أو سكونٍ، بدافع خفيّ، هو في جوهره، مَحْضُ إحساسٍ مفرط، بعدم اقترابِ اللحظة التي يستسلمُ فيها عقلُهُ لـ”صدمة الفقدان”.
وعن مثل هذا، يقولُ جلال الدين الرومي: “الوداعُ لا يقعُ إلا لِمَنْ يعشقُ بعينيهِ، أمّا ذاك الذي يحبُّ بروحهِ، وقلبه، فلا ثمة انفصالاً أبداً”!. والأبُ-الوالدُ قلّما يعشق امتدادَهُ في ابنه أو ابنته، بأدواتٍ حسّية، إنما هو عشقُ الروح للروح، والقلب للقلب.
ولهذا يُعرفُ اجتماعياً على نطاقٍ واسع، أنّه مهما اشتدَّ في نفْسِ الأبِ حبُّ الذات، فإنَّه يطيرُ بهجةً وسروراً، فقط إنْ قيلَ له: إبنك خيرٌ مِنك، أو أذكى، أو أحسن، أو أعلم. ولعلَّ الدلالة تأخذ حيّزها الإنساني العظيم، بالعودة إلى قسَمِ الله تعالى في سورة “البلد”، ((ووالدٍ وما ولدَ))..
ويُقال عند السايكولوجيين، إنّ مرارة الفقدِ العاطفي، تظلُّ جمرتُها تكوي الأبَ زمناً طويلاً، حتى لتَحدثُ في دِماغهِ “تغيُّراتٌ عصبية”، وواحدة من هذه التغيّرات، زيادة في نشاط “اللوزة الدماغية” والتي تُسمى علمياً “Amygdala“، و”الأميغدالا” هذه، تشكّل بتعبير الأطباء، “جزءاً مهماً في تعريف العاطفة والسلوك التفاعلي الاجتماعي عند الانسان، لتنبيهه ضد أي خطر أو تهديد، أي أنه محفّزٌ للتوتر والقلق، وذلك من خلال الذكريات والمواقف المُخزّنة في العقل الباطن. وبمعنى أيسر فَهْماً أنّ هذا التغيّر الاستثنائي في الدماغ يجعل الاستجابة العاطفية لدى الأب المفجوع بابنه، أكثرَ إفراطاً، واستمراراً في مشاعر حزنه، ومهما تراكمت أغطية الحياة اليومية على “الذكرى الأليمة”، فإنّ نأمة، أو إشارة، أو كلمة ما، كافية لإيقادِ “جمرة الشجنِ” من جديد، وتأجيج كآباتِ الماضي بكلِّ استبدادِها، وطغيانِها!. ويقودُ كلُّ ذلك الأبَ المفجوعَ إلى البكاءِ والإحساس بالانكسار، أو أنَّ “الصَّمتَ” يأخذهُ في شرودٍ عمّن هم حوله، والجواهري الكبير يقول:
وحين تطغى على الحرّان جمَرتُه
فالصمتُ أفضل ما يُطوى عليه فمُ
وللحديث “صِلة” إنْ طال بنا المُقام
عن بقية “خيوط الابتلاء” بفقد “حبيب”
