رأي

سوسيولوجيا عراقية [14]..العراق مهدُ المسيحيّة في قرونها الأولى…

تقديم:  في العراق تعلَّمتُ “الخُلُقَ الرفيعَ” من مسيحيّيهِ، صِدقَهم، تواضعَهم، إخلاصَهم، نزاهةَ ألسنتِهم، وكبرياءهَم في اجتناب الدنايا، والصغائر، والضغائن، والإحنِ، والفتنِ، والمكائد، والشرور ما صغُر منها وما كبُر. ويُؤثَرُ عن مسلمي بغداد، أنّهم كانوا يقولون “كُلْ مع اليهودي، ونَمْ في بيتِ المسيحيّ”. ذلك أنّه لا يغدرُ ولا يخون!. وفي هذه الأيام الرمضانية المباركة، أردتُ أنْ أحيّي الكثيرين من أصدقائي وأحبّتي مسيحيي العراق، وهم يعيشون في بلدهم الحبيب ، أو في منافيهم العالمية التي لاذوا بها “فراراً” من عُسفِ الإنسان لأخيهِ الإنسان!.  

      مسيحيّو العراق ليسوا حالةً طارئةً على بلدِهم، فهم أعرقُ في الانتماء حتى من المسلمين أنفسهم!. وفي أرض كربلاء، ثمة آثارٌ لأقدم كنيسة في العالم، يمكن للسائح التعرّف عليها بالقرب من بلدة “عين تمر”. وفي القرن الأول الميلادي كان أغلبُ سكان العراق يعتنقون المسيحية. لكنْ بعد دخول الإسلام الى العراق، اعتنق الناس الدين الجديد، فتضاءلت أعداد المسيحيين، وعمّ الإسلام مدن العراق من شماله الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه.

      وتفيد المصادر أن “بابل” وهي آخر عاصمة لدولةٍ عراقيةٍ مستقلةٍ، سقطت في القرن السادس قبل الميلاد، بعد أن سيطر الفرس على بلاد النهرين، وظل العراقُ لنحو 1000 سنة، تابعاً لدول أجنبية، وساحة للصراع بين الفرس، وبين القوى الإغريقية، والرومانية، والبيزنطية، لكنّ القوة الفارسية كانت هي الأبطشُ والأبقى بحكم الجوار الجغرافي.

    ولم تنته هذه الأحوال المأساوية المُزرية إلا بالفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس. ثم استمرَّ تاريخ العراق بجميع تحوّلاته، حتى سقوط  بغداد 1258م ، وتحوّله الى ساحة صراع بين الإيرانيين والعثمانيين، الى أنْ احتل الانكليز العراق. ثم نشأ الحكم الجمهوريّ بكل متغيّراته، وانتهى الأمر الى سقوط بغداد بيد الاحتلال الأمريكي، ثم تأسيس “ديمقراطية الفساد والخراب!!!”، التي لم تُسفِرْ حتى الآن عن “حالة وطنية”، يصحُّ الانتماء إليها من سائر أبناء العراق!.  

    ولأنّ الشيء بالشيء يُذكَرُ، كما يُقال: لا جدال في أنّ العملية الانتخابية، لاختيار “ممثلي الشعب” لو تتم في بيئة صحيّة، لكانت بداية عافية “سياسية-اجتماعية- نحو أعلى مراحل التطور في البلد مستقبلاً، لأنّها تضمِنُ في الأساس انسيابية انتقال السلطة، وانتباذ الانقلابات، والحكم الفردي الاستبدادي، والهيمنة العسكرية على السلطة!.   

      وأعودُ إلى محور الكلام، لأقول: كان مسيحيو العراق، قد حافظوا على لغتهم الآرامية “السريانية” التي هي امتداد للغتهم السابقة الأكدية-الآشورية-البابلية، بل إنهم أسسوا مذهباً خاصاً هو “المذهب النسطوري”، وكانت “المدائن” مقر الكنيسة النسطورية، ومقر المرجع الأعلى “الجاثليق”، وأطلق عليها كنيسة بابل. ولمن يريد الاستزادة من هذه المعلومات التاريخية المختصرة، عليه أن يراجع موسوعة ويكيبيديا ليجد فيها الكثير من التفاصيل التاريخية المهمة. والحقيقة نحن بحاجة فعلية إلى أنْ نفهم تاريخنا، ونفطن الى حقائقه الأساسية التي لا يجب أن نغفلها أو نتناساها.

    لقد كانت مدينة الموصل، والمدن المحيطة بها التابعة لمحافظة نينوى من أهم المناطق العراقية الشهيرة بسكنى مئات الألوف من العراقيين المسيحيين. لكنّ احتلال “إرهابيي داعش” في أواسط سنة 2014، للموصل هدّد حياة المسيحيين، وغيرهم من الأقليات بشكل لم يسبق له مثيل، مما أشعل موجات هجرة جماعية الى مناطق آمنة داخل العراق، وخارجه. لقد هجر البلد نحو مليون مسيحي من مختلف المحافظات. ونظر المسيحيون الى هذه “الحملة الإرهابية” على أنها عملية اجتثاث للمسيحية ولأقليات أخرى من العراق.

    بعض الفئات المسيحية تعرضت لصدمة قاسية، فقد صودرت بيوتهم وممتلكاتهم من بعض “جيرانهم”. الأمر الذي دفع هؤلاء الى القول إنهم لا يستطيعون العودة الى بيوتهم حتى لو تحرّرت مناطقهم وعاد إليها الأمن والأمان.

   قبل الاحتلال الأمريكي، كان عدد المسيحيين يزيد على مليون ونصف المليون، أما الآن فلا يتجاوز من بقي منهم في البلد –عدا إقليم كردستان- إلا أقل من ربع عددهم. وبرغم الجور والتعسف والطغيان والظلم الذي تعرض له المسيحيون في العراق، فإن من الجميل أن نسمع كهنة كنائسهم وعلمائها لا ينفكون عن توصية المصلين في الكنائس بالإصرار على البقاء في العراق، ويدعون من هجروه بالاستعداد الدائم للعودة إليه. وتلك لعمري شهادة أصالة المسيحية في العراق، ونجابة المسيحيين في حب بلدهم، بلد الأنبياء، والأديان، والأئمة، والصالحين وللحديث صلة عن المفكّرين، والمبدعين، وكبار المثقفين المسيحيين العراقيين الذين أثروا البلدَ بمنجزاتهم التي احتلّت في جوانب كثيرة فرادَةً لا تضاهى!.

مقالات ذات صلة