سوسيولوجيا عراقية (12)..المنتمي و”اللامنتمي”* في مجتمعنا..وقاعدة شمشون!!



لا مُنعرَجَ لنا!..سنظلُّ نحن العراقيين “منحشرين”، في خانق، عسير التضاريس، يفصلنا تماماً عن “لا منتمي” كولن ولسون، وأيضاً عن “المنتمي”، بحسب “تَفَلْسُفِهِ” في كتابه الشهير “اللامنتمي”. محنتنا في جوهرِ كينونتها “معقّدةُ التفخيخ”، بمادّةٍ من “الكآبات الاجتماعية” شديدة الانفجار، فقط إذا ما أفلتَ “عِيارُ الصبر”!.
في موروثنا التاريخي الديني، كانَ “الإسلامُ” لا منتمياً في مكّة، لنحو عشر سنين، باتَ فيها المسلمون، غرباءَ، مضطهدين، لأنّهم انفصلوا عن محيطهم الاجتماعيّ، بمعايير ثقافية، وفكرية جديدة، ما عادتْ متّسقةً مع ما وصفوا نظيرَها من المعايير بـ”الجاهلية”!. وفي يثرب المدينة، صارت الثقافة الإسلامية، هي المعيار الانتمائي، وهو أمرٌ قلّما يحدُث في متغيّرات الدنيا، حيث “سلَّمَ” الأنصارُ “أهلُ المدينةِ”، راية القيادة، والسؤدد، للمهاجرين، بل الإيمان بفكرهم الجديد الوافد من مكّة!.
إنّ المشكلة عند كولن ولسون، ليست في “المنتمي”، فهو متّسق مع معايير مجتمعه، وتقاليده، وقيمه السائدة، ولا يُعاني من صراعات داخلية، فحياته بنسبة كبيرة “مستقرة” عند منعرِجه الانتمائي. أمّا “اللامنتمي” فهو المعضلة، لأنّه يشعُر بالاغتراب عن مجتمعهِ، وإنْ كان يعيش في لُجَجِ حياته اليومية، فهو يرفض معايير ثقافته السائدة، ولا يقوى على التكيّف معها. ولهذا فإنَّ “أصحاب الفكر” من هؤلاءِ “اللامنتمين”، يميلون إلى ابتداع معاييرَ ثقافية-اجتماعية مختلفة، تتجاوز الواقع المرفوض إلى حيث يمكن تغييرهُ طبقاً لرؤية جديدة.
كولن ولسون، الّذي شغلته -حينئذٍ- مُستَحْدَثاتُ المجتمعات الحديثة، ومتغيِّراتُها السوسيولوجية، استعرضَ في كتاب سابق له “ضياع في سوهو”، حالة غرق “اللامنتمي” في بيئة ضبابية، صعّدت قلقَهُ، وحتّمت عُزلتَه، أو انعزالَه!. ولهذا رأى نفسه ذلك الشابّ الذي يرحل إلى “سوهو” وهو حيٌّ في لندن، لعلّه يجدُ ضالّته في تلمّس “ذاته” وفي التعرّف على “هُويّتهِ”!.
لكنّه، في النتيجة، عاش “ضياعاً” جديداً، فلا متَعُ الحياة أرضتهُ، ولا قدراتُ تأويله لعالمه المادّي “المشوّه”، أوصلته إلى الخلاص من صراعاته الداخلية، ومن إحساسهِ، بالفراغ، واللاجدوى، بل اللامعنى. وبهذا بقيت هويتُه، معلّقةً بين سماء “الخيال”، و مستنقع “الواقع”!.
في مجتمعنا العراقي، ثمّة “لا منتمون” كُثر، وهم في الغالب، ذوو قدراتٍ ثقافية قادرة على اكتناه معاني الحياة، ومستجداتها، والإحساس المعرفي بـ”عفونة البيئة” التي يعشيون فيها، حين “تفسُدُ”، أو تتعرّض للتسميم. يحدُث ذلك برغم المقاساةِ الذاتية، وأيضاً برغم “العُزلة” التي يعيشها “اللامنتمي”. وكان كولن ولسون نفسُه قد رسمَ تحليلاتٍ لأفكار مبدعين كبارٍ، سواءٌ أكانوا منتمين أو لا منتمين!.
ولأنّ ولسون عدّ نفسَهُ مثالاً لـ”اللامنتمي”، فهو يميل إلى أنّه يمتازُ بالوعي السابق، وبدرجة حسّاسية عالية، حيال معضلات المجتمع الذي يعيشه، برغم توتّره، وتعقيدات صراع داخليٍّ يغلي مِرجَلُه في نفسه. بمعنى أنّ انفصاله عن مجتمعه، قد يمنحه قدرةً أكبر على الاتّصال بجوهر مشكلاته، وأزماته.

ولمجرّد الإشارة، أقول إنّ كولن ولسون، يشير إلى مفكرين وفنانين كبار مثل فردريك نيتشه، فان كوخ، وألبير كامو، بعدِّها “عبقريات لا منتمية”، عاشت مِحنَ مجتمعاتها بتفاعلٍ استثنائي، ثم اهتدت -بمسارات متباينة- إلى ما يسمّيه كتاب “اللامنتمي” الوعي الكامل لمعنى “وجوديّة الفرد في المجتمع”، وأيضاً لمعنى تشكّل المجتمع في إطار النماء العميق لـ”الحرية الشخصية”!.
فما المُرادُ، أو المُبتغى من كلِّ هذا الكلام؟..أقول: يعيش “جزءٌ كبيرٌ” بل كبيرٌ جداً من مجتمعنا العراقي في حاضره، وفي سائر جهاتِه الأربع، امتداداً إلى شتاتِ العراقيين في العالم، حالةً تكادُ تتجاوز طروحاتِ كولن ولسون، فهو أي (هذا الجزء) من العراقيين، لا هم “المنتمون” ولا هم “اللامنتمون”، إنّهم في أتّون قلق “البَيْنَ بَيْن” بتعبير الدكتور طه حسين، وهم في الوقت نفسه “ينتمون” و”لا ينتمون”، فقط عندما يتعلّق الأمر بقضايا باتت مصدرَ “حيرتِهم”، “وصراعهم الداخلي” و”انغمارهم الهروبي في الدين”، و”تورّطهم” بجَعْجَعَاتٍ في (جدل النهار)، مغايرة لاعتقاداتهم في (دُجنّة الليل).. ومنهم -مثلاً- مَنْ هم “رسمياً” جزءٌ من ماكنة السلطة، لكنّهم، منفصلون عنها بـ”عُزلةٍ” يزعمونها لأنفسهم، وينتمون إليها. إنّهم في الحقيقة ينتمون فقط إلى “………..”…يشتمون الفساد، وهم فاسدون، يلعنون الظلام، لكنّهم يُطفئون أيةَ “شمعة” توقَد، وآخر أنفاسهم آناء الليل، وربّما في ثرثراتِ أطراف النهار، تزفُرُ سرّاً، وأحياناً علناً، “قاعدة شمشون”، فليُهدَم المعبدُ على رؤوس الجميع، أو فليجرفنا طوفانُ إسرائيل !!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صدر كتاب “اللامنتمي” أو بالإنكليزية “The Outsider” سنة 1956، للروائي، الأديب، الانكليزي “كولن ولسون”. وظلَّ الكتابُ لعقودٍ، يثيرُ جدلاً واسعاً بين المفكّرين، والأدباء، والنقاد، ذلك لأنه سبَرَ غور “عذابات” الانسان، الذي لا ينتمي لجماعةٍ، أو حزب، ولا يتبنّى عقيدة ما، فيعيش في مجتمعه “غريباً”، وفي عزلة عمّا حوله. ما فتئ الكتابُ مقروءاً على نطاق واسع في العالم، وكانَ تصدّر المبيعات لعديد السنين.
ولدَ كولن ولسون لعائلة فقيرة، عام 1931، في ليسستر بانكلترا، وبسبب فقره، اضطر لترك الدراسة، وهو في يفاعته، ليعمل في مجالات شتى، واهتم بالقراءة، ولمع نجمُه بصدور كتاب “اللامنتمي”. توفي سنة 2013 بعمر 82 سنة، تاركاً عديد الروايات والمؤلفات المقروءة حتى الآن.